المادّية والميتافيزيقية!!
بقلم: سهيل أحمد بهجت
يقول المسيري:
"و من المسلّمات الميتافيزيقية الأخرى في النظرية الاقتصادية الغربية ـ حسب تصوّر جلال أمين ـ نظرية الاستهلاك التي تذهب إلى أن: ((هدف المستهلك هو تعظيم الإشباع أو المنفعة، فإذا سألت عن ماهية هذا الإشباع [و الغاية منه] قيل لك: لا شيء غير ما يقرر المستهلك أنه يريده، فهم إذن قد قبلوا كمسلمة من المسلمات، و هرَّبوا إلينا مذهب الفردية، بل نوعا من الإباحية، بمعنى أن كل ما ترغب فيه هو أمر مشروع، أو على الأقل ليس من وظيفة الاقتصادي الاعتراض عليه، و لا يمكن مساءلة المستهلك عن القيمة الأخلاقية أو الاجتماعية لما يريد." ـ المصدر السابق ص 113
إن الإنسان هو كائن ـ مزيج من الرغبات و الشهوات و الطموح و القيم و الروحانيات و فيه جوانب عقلية و ميتافيزيقية لا تزال في طور المجهول رغم كل التطور العلمي و العقلي الذي يعيشه العالم، بالتالي فإن رغباته و حاجاته تتنوع بتنوع أفكاره و مواقفه من الوجود و من الأجوبة التي يقتنع بها، إن القول أن لحاجات الإنسان حدودا هو افتراض و وضع مسبق لحدود تتعلق بالإنسان الذي يُفترض أنه لم يكتشف الكثير من أبعاده اللا محدودة، و المسيري نفسه لا يملك جوابا عن ماهية "الحدود" التي ينتهي إليها الإنسان و نوعية هذه الحاجات، فهل الإنسان يمتلك بالفعل حدودا واضحة لحاجاته؟ الإنسان و عالمه يختلف كليا عن عالم النمل و النحل و الأسماك، فكل إنسان يطمح و بشكل طـــبيعي إلى أن يمتلك البيت الجميل و الزوجة الفاتنة و أن يكون رئيسا أو شخصا معروفا و مهما، و هذه الأمور لا يمكن التحكم بها من سلطة أعلى، إلا أن يتم الأمر كقناعة و إيمان بمبدأ معيّن يمكن أن يدفع الإنسان كشخص إلى "الزهد" أو القناعة، و كما يقول الكاتب الأمريكي الكبير المرحوم ول ديورانت في مقالته "ما هي الفلسفة"؟ فإن التحديث الحضاري أجهض جملة تناقضات، فكرة الليبرالية قضت على الملكية و الارستقراطية لتحل محلها الإشتراكية و الديمقراطية، حررت المرأة و أنهت الزواج كمؤسسة من النمط القديم ـ
القائم على طرف واحد هو الرجل ـ و انتهى عهد الزهد المصاحب للبذخ، بمعنى آخر فإن حاجات المواطن هنا لا تختلف عن حاجات أكبر السياسيين و ذوي النفوذ، و إذا بدأنا نضع الحدود لحاجات الناس؟ فما هو المقياس؟ و من يقرر ماهية هذه الحدود و أين تبدأ و أين تنتهي؟ و من يضمن أن هذا التحديد لن يكون انتقائيا ـ كما هو الحال في الدول الإشتراكية و القومية ـ و بالتالي يمتلك البعض القدرة على إشباع "لا محدود" للرغبات و الحاجات و تعاني أكثرية الناس مآسي التحديد.
إن التعامل مع الإنسان و كأنه شيء من الأشياء لم يكن قط سمة من سمات العلمانية الليبرالية الديمقراطية بقدر ما كان سمة ملازمة للشيوعية و القومية و الإسلاموية و للنظرية المسيرية كما اطلعنا عليها، فالإنسان ليس قطعة هندسية واضحة المعالم و هو ليس كأخيه الحيوان الذي يتكون من غريزة فقط، بمعنى آخر هو متجاوز لهذه الأشياء المادية المحدودة و حسب كلام المسيري نفسه فإن الإنسان أكبر من كل التعريفات المادية و لكنه يناقض نفسه إذ يلغي الجانب المادي من الإنسان، فإذا كانت هناك سلبيات في ذلك الجانب المادّي المتعلق بالإنسان فهل يكمن الحل في أن نعامل الإنسان كـ"ملاك" و "كائن روحاني"؟ بالتأكيد لو فعلنا ذلك نكون قد دخلنا بالفعل في عصور الظلام و الخرافة و نحطم الإنسان بحجة الحفاظ على "مصلحة الإنسان".
الغرب لم يقم بتهريب أي فكرة أو ثقافة إلينا بحيث يمكن للمسيري و جلال أمين الزّعم بأن الغرب "هرَّب" إلينا مبدأ الفردية، بل الأفكار ترد إلينا بشكل طبيعي و دون أي تمحيص و استفادة لأن الشرق المدعو إسلاميا ـ كما يصفه أركون ـ لم ينتج أي فلسفة عقلية ذات مقاييس و أطر قادرة على أن ترشح و تختبر الأفكار الحديثة بحيث تنسجم و ثقافتنا و مستويات مجتمعاتنا، إنها بالأحرى مجتمعات كسولة ـ عقليا ـ فيسهل فيها تفسير كل شيء بالقضاء و القدر و النصيب و نظريات المؤامرة، و كون الفردية أساسا للحضارة الغربية لا يعني صفة سلبية لهذه الحضارة بل إن النزعة الفردية هي أساس طبيعي لبناء الدول و المنظومات الحضارية الحديثة، إذ لا قيمة و لا معنى بدون أن يمتلك الفرد شعورا و وعيا بوجوده كفرد له حقوق و واجبات تجاه الآخرين، و هنا يبدو لنا المسيري و كأنه مفكر إشتراكي من المنظومة السوفيتية التي أرادت إلغاء الفرد بحجة الحفاظ على المجموع.
www.sohel-writer.i8.com
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :