بقلم : راندا الحمامصى
يوحنا 18 : 36 : " أجاب يسوع مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أُسّلم الى اليهود ولكن الآن ليست مملكتي من هنا ".
وهذا البيان الموجز عن حقيقة ملكوت الله موضح توضيحًا أكمل وأتم في كلمات حضرة عبد البهاء التالية :-
" ان الملكوت ليس بمكان مادي بل هو مقدس عن الزمان والمكان. هو عالم روحاني. عالم رحماني. مركز السلطنة الآلهية. مجرد عن الجسم والجسمانيات. منزه مقدس عن أوهام عالم الانسان. لأن التحديد في المكان من خصائص الأجسام لا الأرواح والمكان والزمان محيطان بالجسد لا بالروح. فانظروا ان جسم الانسان له مكان في موضع صغير يشغل شبرين من الأرض لا أكثر من ذلك ولكن الروح الانساني يسير في جميع الممالك والأقاليم بل في هذا الفضاء السماوي الذي لا يتناهى ومحيط بكل ما في الكون. ويكتشف ما في الطبقات العليا وما كان على بعدٍ لا يتناهى. ومن هذه الوجهة فليس للروح مكان بل هو لا مكاني والأرض والسماء بالنسبة للروح على حد سواء لأن لها في كليهما اكتشافات بينما الجسم محصور في مكان ولا علم له بما سواه. وأما الحياة فهي على قسمين: حياة جسمانية وحياة روحية.
أما الحياة الجسمانية فهي عبارة عن حياة الجسد وأما الحياة الروحية فهي عبارة عن الوجود الملكوتي والوجود الملكوتي هو الاستفاضة من الروح الآلهي وهو الحياة من نفحات الروح القدس. فالحياة الجسمانية وان كان لها وجود غير انها عند النفوس المقدسة عدم صرف وموت مطلق فمثلاً ان الانسان موجود وهذا الحجر أيضًا موجود ولكن أين وجود الانسان من وجود هذا الحجر؟ فالحجر وان كان موجودًا ولكن وجوده عدم بالنسبة لوجود الانسان. والمقصود من الحياة الأبدية هو الاستفاضة من فيض روح القدس كما يستفيض الورد من فصل الربيع الجديد ونسماته ونفحاته فانظروا هذا الورد كان له في الأول حياة وكانت حياته جمادية لكنه لما جاء موسم الربيع وفاضت سحائبه واشرقت شمسه النورانية بحرارتها نال حياة جديدة واصبح عبقًا وفي نهاية الطراوة واللطافة فحياة هذا الورد الأولى هي ممات بالنسبة الى الحياة الثانية. والخلاصة ان الحياة الملكوتية هي حياة الروح وهي حياة أبدية منزهة عن الزمان والمكان كالروح الانسانية فلا مكان لها لأنك لو بحثت في جسم الانسان ما وجدت للروح مكانًا ولا موقعًا خاصًا لأن الروح مجردة لا مكان لها أبدًا. لكن لها علاقة بالاجسام كعلاقة الشمس بالمرآة فلا وجود للشمس بالمرآة ولكن لها علاقة بها. فعالم الملكوت على هذا المنوال مقدس عن كل ما يرى بالعين أو يدرك بغيرها من الحواس كالسمع والشم والذوق واللمس وهذا العقل الموجود والمسلم بوجوده في الانسان أين مكانه من جسمه؟ انك لو بحثت في جسم الانسان بالعين والسمع وسائر الحواس لا تجد شيئًا بينما هو موجود. اذًا ليس للعقل مكان ولكن له علاقة بالمخ فكذلك الملكوت وكذلك المحبة لا مكان لها بل لها تعلق بالقلب وكذلك الملكوت ليس له مكان بل له تعلق بالانسان" ( منقول من كتاب المفاوضات ص 218و219).
وهذا الايضاح الوارد أعلاه يوضح بجلاء تام المعنى الذي عبر عنه المسيح حول المكان الذي يمكن فيه أن نجد ملكوت الله :
لوقا 17 : 20: " ولّما سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله اجابهم وقال لا يأتي ملكوت الله بمراقبة.
21: ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك لأن ها ملكوت الله داخلكم".
ثم يستمر حضرة عبد البهاء في بيانه الأحلى :-
" أما الدخول في الملكوت فهو بمحبة الله والإنقطاع والتقديس والتنزيه ويكون بالصدق والصفاء والوفاء والاستقامة وتضحية الروح. اذًا وضح من هذه البيانات ان الانسان باق وحي أبدي فهؤلاء الذين يؤمنون بالله ويحبونه ويؤمنون به فحياتهم حية يعنيّ أبدية . أما تلك النفوس المحتجبة عن الحق مع أن لها حياة لكنها حياة ظلمانية بالنسبة لحياة المؤمن عدم. مثلاً ان العين حية والظفر أيضًا حي ولكن حياة الظفر بالنسبة لحياة العين عدم. وهذا الحجر له وجود والانسان ايضًا له وجود ولكن وجود الحجر بالنسبة لوجود الانسان عدم وليس له وجود" ( من كتاب المفاوضات ص 219و220).
متى 6: 19 : " لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب
السارقون ويسرقون
20 : بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون
21 : لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا".
ولو أن بطرس كان أميّا لكنه خزن لنفسه كنز البصيرة الروحانية التي مكنته من معرفة الألوهية المُتجلية في ظهور المسيح بينما غيره من البشر قد نظر المسيح بشرًا سويًا ولم ينظر الى حقيقته الخفيّة ويوضح حضرة عبد البهاء فيما يلي معنى العبارة الواردة في الانجيل " أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" فيتفضل :
" ان هذا البيان من المسيح تصديق لقول بطرس حينما قال له " " أنت هو المسيح ابن الله الحي" ثم قال حضرة المسيح في جوابه
" أنت الكيفا " والكيفا في اللغة العبرية هي الصخرة ولذا قال المسيح " وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" لأن بعضهم قال لحضرة المسيح أنت ايليا وقال بعضهم انت يوحنا المعمدان وقال بعضهم انت ارميا او أحد الأنبياء فأراد حضرة المسيح أن يؤيد بيان بطرس بالكناية أو الاشارة ولكونه تسمى بالصخرة قال بهذه المناسبة " انت الصخرة وعليك أبني كنيستي" يعني سيكون أساس دين الله مبنيًا على عقيدتك " ان المسيح ابن الله الحيّ" وعلى هذه العقيدة سيوضع أساس كنيسة الله التي هي شريعة الله" ( من كتاب المفاوضات ص 119و120).
ومقدرة بطرس على رؤية حقيقة المسيح الروحانية قد أهلته ان يكون موضع الثقة وان تكون بيده مفاتيح ملكوت السماء أما الغافلون والجائرون فان لهم أعينًا لا تبصر الصفات الآلهية وآذانًا لا تسمع أصوات المقدسين. طوبى للذين هم في هذا اليوم قادرون مثل بطرس على ادراك حقيقة ملكوت الله والنبوات الخاصة به بفضل فهمهم الروحاني. إلاّ ان النبوات قد سبقت في كلا العهد القديم والعهد الجديد الى القول بأنه ستكون هناك فئة من الناس قَسَتْ قلوبهم وسكرت أبصارهم:
متى 13: 14 : " فقد تمت فيهم نبوة أشعيا القائلة تسمعون سمعًا ولا تفهمون ومبصرين تبصرون ولا تنظرون.
15 : لأن قلب هذا الشعب قد غلظ وآذانهم قد ثقل سماعها وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم.
16: ولكن طوبى لعيونكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع".
ويجب على المرء في هذا اليوم ان لا يشتاق أمرًا غير عرفان الله واكتشاف عظمة عزته في وقت فتحت فيه كل أبواب الحكمة الآلهية.
ويخبرنا حضرة بهاء الله نفسه بكيفية حصول هذا حتى يلمس القوة الجاذبة في ملكوت الله جميع الذين يريدون ذلك:-
" قل يا قوم لا تنظروا اليّ إلاّ بعيني إن تريدن أن تعرفن الله وقدرته ومن دون ذلك لن تعرفوني ولو تفكروا في أمري بدوام الملك وتنظرون الأشياء ببقاء الله الملك القادر الباقي الحكيم. كذلك بيّنّا الأمر لعل الناس يستشعرون في أنفسهم ويكوننّ من العارفين... " ( من كتاب منتخباتي أز آثار حضرت بهاء الله ، صحيفة 175رقم 127).}المقال من كتاب-ملكوت الآب السماوي{