بقلم : مدحت بشاي
أتفق مع تعريف الفنان بأنه الإنسان الذى يسير دائمًا فى طريق خاص ذاتى، بل قد يكون الدرب المختلف والمغاير لحركة المجتمع إذا حكمت أهله عقلية القطيع التابع، ويبقى إبداعه هو الصوت الذى ينبذ هيمنة المطلق والحالة الشمولية.. الفن خرق لمفهوم العادة والاعتياد والنمطية.. الفن تمرد على القوالب الجاهزة وتجاوز لكل كليشيهات أهل التنظير الحكيم، فالفن أراه هو الابن العاق الذى يرفض الخنوع والخضوع للطاعة.. الفن هو الخروج عن سطور الكتابة وعلامات التشكيل الضابطة للمعنى الواحد لتجميعة حروف تليدة، فقد تكتب حروف الفن فى هوامش كانت الكتابة ممنوعة الظهور فيها.. الفن لابد يحمل علامات التميز والندرة وإعادة الخلق وتجدد البناء وحرية الهدم والتفجير لو تطلب الأمر ذلك.. الفن هو الصوت الحر المشحون بهموم الذات وإيقاعاتها اليومية.
أرى أن الإبداع الفنى يتمّ فى إطار نزوع ذاتى محض، إلى حد التأكيد على أن «الأذواق لا تناقش» لو كان الأمر يتعلق بإطلاق أحكام وأوصاف للجمال والأذواق، ولا دخل فيه لعوامل موضوعية أو لقيم جماعية، ولهذا كتب «كلود برنار» فى كتابه مدخل إلى الطبّ التجريبى يقول: «إنّ الفنّ هو أنا بينما العلم هو نحن»، إشارة منه إلى أنّ الحقيقة أو النظرية العلمية يلتقى عندها الكلّ لأنها قد سبق الإجماع على برهنتها على أساس قواعد متداولة مشتركة فى التجريب واستخدام العقل البشرى الذى يفكر بطريقة منطقية وهو يدرس موجودات الطبيعية، بينما يتميز الإبداع الجمالى بانفلاته من هذه المعايير وخضوعه لدواعى الذات الفردية لا غير، مما يجعل تفسيره مستحيلا انطلاقا من قواعد مشتركة منطقية أو أخلاقية.
ووفق ذلك التفهم أكّد «مارسيل بروست» على أن «الحسّ الفنى خضوع لواقع داخلى»، ما يعنى استحالة جعل الفنان يخضع لمحددات واقع تشكل ملامحه التقاليد أو العادات أو زواجر القيم والأخلاق، إذ الفن هو تمرد على ذلك كله بغاية التعبير الحرّ عن مكامن الذات الإنسانية، وهو تمرد محمود ومقبول اجتماعيا، لأن الناس يعتبرونه إبداعا جماليا وليس تعبيرا مباشرا باللغة العادية، فلو قام أحد منا بالتلفظ بعبارات جنسية فاضحة لنال من التقريع والشتائم من الناس ما لم يتوقعه، ولكن عندما يذهب شاعر بالتعبير عن نفس المعنى فى قصائده يتداولها الناس بشكل طبيعى وكأنه أعطاها علامة مرور.
وعليه، فالأمر تضبطه رؤية الفنان للعالم، وقد عبّر عن ذلك الشاعر الفرنسى «بول إلوار» عندما قال: «أن أرى العالم كما أنا لا كما هو»، أى أنّ النظرة إلى الأشياء تمرّ عبر أحاسيس الذات ومشاعرها وأحلامها وآلامها وتمثلاتها وليست فعلًا باردًا مجردا من حرارة الذات الإنسانية المتفاعلة.
وعليه، أرفض ما ذهب إليه نقاد الزمن الأحول فى تأييدهم لحرية «حمو» و«شطة»- ومن على شاكلتهما- وإطلاق فنونهما بمبرر جماهيرية حفلاتهما، فلو كنا قد قاومنا أداء «اللمبى» لما خسرنا ذلك الفنان المثقف الموهوب حتى ظل يكرر تفاهة الشخصية دون إبداع، ولو كنا قد قاومنا ضحالة موهبة «الأسطورة» لما أغرقنا بأفلام لا ينبغى تداول الكلام عنها إلا فى صفحات الحوادث.. يا أشاوس الدفاع عن مثل تلك النماذج يبدو أنكم فى احتياج لمعرفة يعنى إيه فن ومين هو الفنان؟.. ارحمونا!!.