الأقباط متحدون - فى المعبد اليهودى.. بالقاهرة
  • ١٧:٠٠
  • الاثنين , ١٠ ديسمبر ٢٠١٨
English version

فى المعبد اليهودى.. بالقاهرة

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٢٤: ٠١ م +02:00 EET

الاثنين ١٠ ديسمبر ٢٠١٨

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

فاطمة ناعوت
على الضِّفَّة الأخرى من العالم، يقف كيميائيٌّ يهودى اسمه «ريموند شينازى»، ينظر صوبَ مصر. ظلَّ على مدار سنوات طوال، يدخل معملَه كلَّ صباح يكتبُ معادلاتٍ، ويمزجُ تراكيبَ ومحاليلَ وأكاسيرَ فى قواريرَ، ثم ينظر فى عدسة ميكروسكوب يتأمل شيئًا ضئيلاً راقدًا على شريحة زجاجية نحيلة. وحين يُرهقُه الكدُّ وتُجهدُه الأفكارُ، يذهبُ إلى النافذة لينظرَ صوبَ النصف الآخر من الكرة الأرضية، حيث مصر. عقلُه فى أمريكا حيث يعيش ويُدرِّس الكيمياء. وقلبه فى مصر، حيث وُلِد وعاش طفولته، وحيث تنبضُ النوستالچيا فى شرايينه.

تذكَّرتُ ذلك الرجلَ النبيل، الخميس الماضى ٦ ديسمبر، وأنا أقفُ بين أهله وأقربائه وأبناء عقيدته داخل المعبد اليهودى فى شارع عدلى بالقاهرة، أهنئ أبناءَ مصر اليهودَ بعيد «الأنوار». أتأملُهم وهم يوقدون الشموعَ على أرض مصر، فيزدادُ إيمانى بحقيقة أصيلة تربط بين عشق الوطن، وقيمة الوطنية النبيلة، وحقّ المواطَنة الكريمة، فى ثالوث أبدى مقدّس، لا علاقة له بأية اعتبارات أخرى. ذلك العالِمُ الكبير، عاش سنوات طفولته وبدايات صباه فى وطنه مصر، على شاطئ الإسكندرية الساحر، قبل أن يهاجر مع أسرته، مضطرًّا، إلى أمريكا، حيث ترقَّى على مدارج العلم العليا، ليغدو بروفيسورًا مصريًّا أمريكيًّا عالميًّا مدهشًا، يُصوّبُ الناسُ أنظارَهم إليه، بينما هو لا يُصوِّب بصرَه إلا نحو أرض ميلاده: مصر الطيبة.

عرف ذلك الرجلُ من الإحصاءات الدولية، أن مصرَ تحتلُّ المرتبة العليا فى إصابة أبنائها بفيروس سى القاتل. وخزَ الحزنُ قلبَه، وقرّر أن ينقذَ أشقاءه من ذلك العدو الشرس. فاقتطع من عمره تسعة عشر عامًا، لا يبرح معملَه ولا يرفع عينيه عن أبحاثه حتى ابتكر مع فريق عمله دواءً إعجازيًّا أدهش الدنيا. إعجازيةُ ذلك الدواء، سوڤالدى، أنه يُشفى من المرض فى غضون أسابيع قليلة، ويُمثّلُ وقايةً نهائية منه، فى آن. الدواءُ فى أصله باهظُ الثمن، ولكن بفضل جهود شينازى استطاع أن يُهديه لوطنه مصر بثمن زهيد، فسجّلته وزارةُ الصحة المصرية كأول عقار رسمى لعلاج فيروس سى الذى ظلَّ ينهشُ فى أكباد المصريين عقودًا طوالا. ولأن النُبلَ شيمةُ العلماء، فإنك حين تُنصت إلى ذلك الرجل النبيل، لن تلمح فى صوته أى مرارة جرّاء ما لَحِق باليهود المصريين من اضطهاد فى وطنهم مصر، بعد قيام دولة إسرائيل. لا يذكرُ كيف لوحقوا وشُوِّهوا وحُرقت ممتلكاتهم وطُردوا من ديارهم بمصر، رغم أنهم كانوا، ومازالوا، أكثر الرافضين لقيام دولة إسرائيل المحتلة على أرض فلسطين. حين تسأله لماذا خرج مع أسرته من مصر فى بدايات الستينيات الماضية، يقول ببساطة مبتسمًا: «بسبب الأحوال السياسية» وفقط. دون مجرد إشارة إلى المظالم التى طالت يهودَ مصرَ الذين أحبّوا مصرَ أكثر من ملايين يعيشون على أرضها ولا يعرفون قيمتها. وربما أكبرُ دليل على هذا أن معظم من هُجِّروا قسرًا من يهود مصر لم يذهبوا إلى إسرائيل التى كانت، ومازالت، تفتح لهم أحضانها وهى تُلوِّح لهم بالباسبور الإسرائيلى القوى. بل هاجروا إلى أمريكا وأوروبا، وهم يبكون ترابَ مصر الكريم. ولأن الأصالةَ صُنوُ العلماء، فقد كان حُلمُ ذلك البروفيسور النبيل هو أن يُهدى الدواءَ الغالى لأبناء بلده، الذين يموتون كل يوم على يد ذلك الفيروس الشرس. ما كان أسهلَ أن يطوى ذلك الرجلُ صفحةَ مصر على مرارتها، ويرمى ببصره نحو دول العالم التى كرَّمته وعرفت قدره. لكنه لم يفعل. إنما ظلَّ ولاؤه لوطنه الطيب. ولو سُئلَ ذلك الوطنُ لطلب محاكمة كل متطرّف ينتقصُ من حق وقدر أى مسيحى أو يهودى من المصريين. ولشدَّ ما يتشابه النبلاء. ذلك الرجل النبيل يُذكِّرنا بنبيل آخر هو البروفيسور سير مجدى يعقوب، الذى اضطُهد كذلك فى بداية مشواره العملى بعد تخرّجه بتفوق فى كلية الطب فى مصر، فسافر إلى بريطانيا وترقّى حتى وقف على قمة هرم الطب العالمى. ثم قرّر فى الأخير أن يُهدى ثمرة علمه وعبقريته إلى وطنه الطيب. فأنشأ مركزًا عملاقًا فى أسوان لعلاج قلوب أطفال المصريين الفقراء، راميًا عرض الحائط بأى مرارة تذوّقها فى مصر. المرارةُ لا تعرف حلوقَ النبلاء. المرارةُ لا تحتلُّ إلا نفوس الصغار.

يهود مصرَ المتحضرين، كل عام وأنتم أبناءُ وطننا الطيب الذى يجمعنا على الحبِّ والعمل. مسيحيو مصر المتحضرون، كلُّ عام وأنتم أبناء وطننا الطيب الذى يجمعُنا على الحبّ والعمل. وأُشهِدُ اللهَ ربّى أننى أحبُّ جميعَ من أحبّوا مصرَ، دون النظر إلى عقائدهم التى هى شأنُ الله وحده. أحبُّ الَله فأحبُّ جميعَ صُنعِه، وأحبُّ مصرَ فأحبُّ مَن أحبَّها، فلا أكره ولا أظلم ولا أعتنق الطائفية. هكذا تربَّيتُ وتعلمتُ من أبى المتصوّف، وهكذا أطبِّق أولَ مبادئ عقيدتى: فسِلمَ الناسُ من لسانى ويدى.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع