المحافظ آخر من يعلم
مقالات مختارة | سحر الجعارة
الاثنين ١٧ ديسمبر ٢٠١٨
منذ عدة سنوات اختفى المشهد الشهير الذى كنا نتابع فيه توزيع أوانى الزرع على الصفين، ودهان الأرصفة، انتظاراً لزيارة «معالى الوزير اللواء المحافظ»، أو غيره من السادة الوزراء، الذين يهبطون بالباراشوت فى زيارة مفاجئة لتفقد أحوال العمل فى مجال تخصصهم (وهى الزيارة المعدة سلفاً مع تجهيز كامل لكاميرات التليفزيون).. وربما كان المهندس «إبراهيم محلب»، مساعد رئيس الجمهورية للمشروعات القومية السابق، آخر مسئول ينزل بنفسه إلى الشارع، ويخاطب سائقى الميكروباصات مع أول موجة غلاء مرت بالبلاد.
لكن المشهد العبثى الذى توقف أمامه البعض فى ذهول والآخر فى سخرية، هو أن يضبط رئيس الجمهورية «عبدالفتاح السيسى» محافظ العاصمة اللواء «خالد عبدالعال» متلبساً بالجهل التام عن المحافظة التى يديرها.. فى أسئلة مباشرة وأمام كاميرات العالم.
سأل الرئيس محافظ القاهرة أسئلة من صميم اختصاصه ومهام منصبه: «ما حجم الأموال المتوفرة فى صندوق العشوائيات بالمحافظة، وما هو دخل المحافظة مالياً، وما عدد مشرعات الكبارى التى تم تنفيذها خلال الـ4 سنوات الماضية؟». ولأن الموقف يحتمل السخرية اضطر الرئيس إلى «الاستعانة بصديق» لعله ينجد المحافظ من فقر المعلومات أو يخفف حدة ارتباكه وإحراجه أمام الحضور.. لكن إجابات اللواء «كامل الوزير»، رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، القاطعة زادت من حرج المحافظ الذى اتضح أنه «آخر من يعلم» شيئاً عن المشروعات القومية التى يتبناها الرئيس ويتابعها بشكل شخصى.
السيد المحافظ غارق فى الظلام، لا يكلف نفسه عناء الإشراف على إنارة طريق المطار!! لقد ارتضينا أن تكون الحكومة من «التكنوقراط» وأن تتولى المهام التنفيذية، وأن يتحمل الرئيس مسئولية النجاح أو الفشل، أو العجز عن الإبداع والتفكير (لا داخل الصندوق ولا خارجه)، ليكون القضاء على العشوائيات وبناء مدن حضارية والارتقاء بمستوى حياة المهمشين، والقضاء على فيروس سى ومشروع علاج «الحالات الطارئة»... إلخ كله من بنات أفكار الرئيس.. بينما حكومته تنتظر «توجيهات السيد الرئيس»!
وحتى هذه التوجيهات يتم إجهاض بعضها أثناء مرحلة التنفيذ، فالحكومة -مثلاً- لم تراعِ ارتفاع مقدم الشقق وأقساطها الشهرية التى لا يملكها شاب تخرج حديثاً من الجامعة فظلت معظمها فارغة حتى الآن!
ولم تتكاتف للقضاء على منابع الإرهاب والتطرف بالوزارات المختصة بإحداث ثورة فكرية، وعلى رأسها وزارات الثقافة والتعليم.. وكأن بعض الوزراء والمحافظين من «كوكب ثانى» لا يفهمون «لغة الرئيس»، ولا يدركون حساسية مناصبهم وأهميتها، لدرجة أن البعض تحول إلى قطعة شطرنج فى انتظار «تعليمات الرئيس» لتتحرك!
أنا أتعجب أحياناً فى لقاءات السيد الرئيس كيف يجمع كل الخيوط والمعلومات فى ذاكرته، كيف يحفظ رواتب الموظفين بالدولة ويحسب معدل الزيادة فى المعاشات أو بطاقات التموين، ومن أين يأتى بالوقت الذى يمكّنه من مشاهدة «فتاة عربة البرجر» والاعتناء بذوى الاحتياجات الخاصة، وملاحقة الحرب الدائرة على الإرهاب فى سيناء وإدارة الملفات الخارجية... إلخ، وكأن بين الرئيس ومعاونيه مسافة زمنية لا تمكّنهم من مواكبة «ماراثون التنمية».
لكن الشعب فى النهاية يحمّل الرئيس وحده اختيار حكومته ومعاونيه (سواء نجحوا أو أخفقوا)، فالرئيس هو من يقيّم أداء كل مسئول فيهم، وهو أيضاً من يكلف الأجهزة الرقابية بمكافحة الفساد، حتى رأينا أكثر من مسئول فاسد يسقط فى قبضة «هيئة الرقابة الإدارية». ولأن الفساد يعادل الإهمال، دخل محافظ القاهرة قفص الاتهام أمام «محكمة الرأى العام» التى أثبتت أن «المنصب يساوى صفر»، وحكمت عليه بالاستقالة.
نقلا عن الوطن