كيف كسر الرئيسُ الحائطَ الرابع؟
مقالات مختارة | فاطمة ناعوت
الاثنين ٢٤ ديسمبر ٢٠١٨
فاطمة ناعوت
تكلمتُ الخميسَ الماضى فى مقال: (الرئيسُ يكسرُ الحائطَ الرابع)، عن «الفلسفة» التى علينا اقتناصُها وتأمّلها، حين فاجأ الرئيسُ السيسى أحد المسؤولين فى الدولة بطرح بضعة أسئلة، أمام ملايين العيون المباشرة ومن وراء الفضائيات. وعدّدتُ فى المقال أفكارًا عدة، حتى خَلُصتُ إلى أن الفلسفة الكبرى من ذلك المشهد الخاطف، هى أن الرئيس عبدالفتاح السيسى أراد أن «يهدم الحائطَ الرابع»، الذى يقفُ بين «صانع القرار» فى الدولة المصرية، و«المواطن» المصرى. وطلب القرّاءُ منّى توضيحَ أمر «الحائط الرابع». وها أنا أكملُ فكرتى وأُشرِّحُها بمباضع التفصيل.
«هدم الحائط الرابع» هو تعبير فنى مسرحى ابتكره برتولد فريدريش بريخت، الكاتبُ المسرحى الألمانى المعروف، ولامسه من قبله فرسان المسرح الإغريقى القديم. أما «الحائط الرابع» فهو الفاصلُ الشفاف الوهمى الذى يفصلُ بين الأبطال (صُنّاع الدراما) فوق الخشبة، وبين الجمهور فى قاعة العرض. باعتبار أن للمسرح ثلاثة جدران تجرى بينها أحداثُ الدراما، تكتمل بالحائط الرابع الوهمى. وأما «هدمُ الحائط الرابع»، فيكون باختراق ذلك الحاجز مجازًا، بهدف إشراك النظّارة مع الأبطال فى صناعة الدراما الملحمية التى تجرى فى مسرح الأحداث. فيتحوّل الجمهورُ من متفرج صامت، إلى فاعل صانع لأحداث العمل الدرامى الدائر أمامهم. فبدلا من جلوسهم فى كسل وتراخ، ينظرون وينتظرون النهاية، نجبرهم على الانخراط مع الأبطال فى الدراما. وباعتبار أن خشبةُ المسرح هى نموذجٌ مصّغرٌ للحياة، بكل دراماها ومشاكلها وتسلسل أحداثها وعقدتها العليا، التى بعدها تتفكك الأحداثُ حتى تحين لحظة حل المشكلات، بوسعى أن أقول إن المشهد الذى طرح فيه الرئيس أسئلته الثلاثة على محافظ القاهرة، يُعدُّ هدمًا للحائط الرابع بين الشعب المصرى، و«مسرح العملية السياسية»، الذى يحكم الدولة ويحميها ويسعى إلى تطوّرها.
هكذا فعل الرئيسُ فى واقعة «الأسئلة الثلاثة»، وهكذا يفعلُ فى مجمل خُطبه وكلماته السريعة التى يوجهها لنا فى كل المناسبات. كأنها رسالةٌ للشعب المصرى تقول: «أنتم الشعبُ المصرى، وأنا الرئيسُ المصرى، وأولئك المسؤولون المصريون فى هذه الدولة، نقود سفينةً واحدة اسمها: مصرُ. وعلينا (جميعًا) تقعُ مسؤوليةُ سلامِها وسلامتها ونهضتها ووصولها إلى برّ الأمان. لستُ وحدى المسؤولَ، بل كلُّ مواطن من ملايين المصريين يحملُ مسؤوليته ويؤدى دورَه فى تلك السفينة، لو أردنا لها نجاةً. غيرُ مسموح بالفساد أو الإهمال، غيرُ مسموح بالهَدْر والتخريب، غيرُ مسموح بالإنجاب دون حساب، غيرُ مسموح بالطائفية والتنمّر والمراهقات الفكرية، غير مسموح ألا نراعى الَله والضمير وحقَّ الوطن فى كل خطوة نخطوها».
إنها الشفافية التى ينهجها الرئيسُ حتى يشعرَ كلُّ مواطن بخطورة اللحظة التى نمرُّ بها. الشفافيةُ وهدم الحائط بين المسؤول والمواطن هما السبيلُ إلى وأد الشائعات التى يطلقها أعداءُ مصرَ بهدف تحطيم الطاقة المعنوية لدى المصريين. الشفافية هى التى ستجعلُ المواطنَ المصرى يشعر بأزمات اللحظة فيصبرُ ويتفانى فى العمل حتى نمرّ منها بسلام. علينا جميعًا كمصريين أن نفخر بالمشروعات الجديدة التى تُفتتَح كلَّ نهار، وأن ندرك أن المردودَ منها آتٍ فى أمد ليس بالبعيد، وكذلك ليس بالقريب. لأننا نُسدّدُ فاتورة باهظة قديمة صنعتها عقودٌ وسنوات طوال، ولا يليقُ أن نجعلها تتفاقم حتى نورِّثها لأبنائنا، مثلما ورثناها عن آبائنا. علينا جميعًا، دون استثناء، أن ندرك حجم التحديات التى تواجهها مصرُ الآن. وأن نوقن أن الغلاء المُرَّ الذى يُعكّر صفونَا اليوم، هو ميراثٌ عقود طوال من الاستهلاك والانفجار السكانى غير المنتج وانخفاض الكفاءة الإنتاجية، ما تسبب فى حال مخيفة من التضخم والبطالة والأزمات الاقتصادية التى نعمل على تجاوزها (معًا). الرئيسُ يودُّ أن يتحوَّلَ المواطنُ المصرى من «متفرج» لا يدرى ما يجرى، إلى «راوٍ عليم» يعلم الاستراتيجيات الجارية، ثم «مُشارك ضالع» فى صنع «دراما» النهوض بمصر وتنميتها فى غدٍ طيب وقريب بإذن الله.
علينا ألا ننسى مرحلةَ الظلام الدامس التى عشناها فى ظل الإخوان، والدمارَ الشامل الذى كان ينتظرنا لو أكملنا معهم، لا سمح اللهُ. علينا ألا ننسى نعمة «الأمان» التى نعيشُها اليوم، على عكس ما مضى وما كان سيكون. النسيانُ نعمةٌ أحيانًا، ولكنه يباعدُ بيننا وبين الحقائق ويفقدنا القدرةَ على النظر بشكل أوسع وأدق وموضوعى.
والدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطنَ.
نقلا عن المصري اليوم