منذ بَدْءِ «اعتصام المثقفين»، الذى رابضَ فى مبنى وزارة الثقافة فى شارع «شجر الدرّ» بالزمالك، حين قرّر المثقفون فى مصرَ الانتفاضَ ضدَّ الاحتلال الإخوانيّ فى أوائل يونيو ٢٠١٣، وانتهى بثورتنا الشريفة فى ٣٠ يونيو، ظللتُ أختتمُ جميعَ مقالاتى طوال ذلك الشهر، هنا فى زاويتى بجريدة «المصرى اليوم» بعبارة ثابته لا تتغير، هى: (موعدُنا ٣٠ يونيو). وكان الموعدُ وكان التحرُّرُ من براثن الشيطان. ومنذ اليومَ، سوف أختتم جميعَ مقالاتى بعبارة أخرى، ثابتة لا تتغير كذلك، وهى: (والوطنُ لمَن يُحبُّ الوطنَ). ولهذه العبارة حكايةٌ، سأحكيها اليومَ للمرة الأولى والأخيرة، حتى تكونَ التقدمة للعبارة التى سوف تُذيِّلُ جميعَ مقالاتى منذ اليوم، وحتى أجل يعلمه الُله، نغدو فيه إنسانيين أكثر، ووطنيين وناضجين أكثرَ، كما يليقُ بنا كمصريين، وكما يليقُ باسم مصرَ العريق.
مع إشراقة عام ٢٠١٩، سنحتفلُ بمرور قرن من الزمان على بزوغ أشهَر شعارٍ مصريّ انطلقَ مع أشهَر ثورة مصرية اشتعلت فى القرن الماضى. ثورةُ شعبٍ عظيم قرّر أن يكونَ يدًا واحدة رافضةً فى وجه المحتلّ الإنجليزى. وكان الشعبُ مثقفًا، فكانتِ الثورةُ مثقفةً، فأفرزتْ شعارًا مثقفا. ولم تنته الثورةُ إلا مع إعلان دستور مصريّ خالص، وبرلمان مصريّ عام ١٩٢٣. وأما الشِّعارُ الشهيرُ فكان: «الدينُ لله، والوطنُ للجميع». وهى الرسالةُ الموجزةُ التى تحملُ قيمَ المجتمع المدنى الصِّحيّ الذى تحتضنُ فيه الدولةُ كلَّ أبنائها دون النظر إلى عقائدهم. وحين تسنُّ قوانينَها وتشريعاتِها، يقفُ القانونُ على مسافةٍ متساوية من جميع أديان أبنائها، ذاك أن: «الدينَ كلَّه لله، والوطنَ كلَّه لبنيه».
تعلّمتُ تلك العبارةَ البليغة، فى كتاب التاريخ. وكنتُ أردّدها وأنا صَبيةٌ صغيرةٌ على مقاعد الدرس. ولكنْ، حين تفتحت مداركى، رحتُ أتساءلُ: «ما معنى كلمة (الجميع)؟» «الجميعُ» كلمة «شمولية». تضمُّ بين جناحيها الصالحَ والطالح! المخلصَ والخائن! تضمُّ الجنديَّ الذى تُهرَقُ دماؤه على تراب الجبهة ذودًا عن شرف بلاده، مثلما تضمُّ الجاسوسَ الذى يبيعُ وطنَه للعدوّ! فهل ذاك عدلٌ؟! (الجميعُ) تلك تضمُّ العاملَ فى مصنعه يبنى مجدَ بلاده، مثلما تضمُّ الموظف الفاسدَ الذى يهدرُ أموال بلاده أو يتكسّب من وظيفته بغير حقّ! فهل ذاك عدلٌ؟! (الجميعُ) تلك تضمُّ بين جناحيها الفلاحَ الذى تُلوِّحُ الشمسُ جبينَه وهو يُطعمُ الثمرَ لأشقائه فى الوطن، مثلما تضمُّ الإرهابيَّ الذى يُفجّرُ مسجدًا أو كنيسة أو مدرسة. فأيُّ عدلٍ؟! هنا أيقنتُ أن الشعارَ البديعَ بحاجة إلى تعديل طفيف حتى تكتملَ لوحةُ بانوراما الشعب المصرى الجميل. لابد أن يكون شعارُ مصرَ الراهنَ على النحو التالى: «الدينُ لله، والوطنُ لمنَ يُحبُّ الوطنَ». فالفيزيائيُّ الذى يبتكرُ جهازًا يحصدُ الطاقةَ من أشعة الشمس، فيوفّر على بلادى أموالا باهظةً، هو الأولى بالوطن ممن يهدرُ الطاقةَ دون وعى لأن لديه فائضًا من المال. والطبيبُ الذى يجوب النجوع ليعالج الفقراء فى بلادى بأجر رمزيّ، أولى بالوطن من رجل أعمال يستثمرُ أمواله خارج وطنه، فيُضيّعُ بعض الخير وبعض الرجاء. ورجلُ الأعمال الذى يبنى مصانعَ تفتح بيوتَ عمال ومهندسين، وتنتجُ ما يُفيد الوطن، أرقى وأولى بالوطن من رجل يجلس على شاشات الفضائيات يُكفّرُ الناسَ ويتاجر فى عقائدهم، فيوغرُ صدورَ الناس ضدّ الناس، فيكره الجارُ جارَه إذْ اكتشف «فجأةً» أنه مسيحيٌّ، وتهجرُ الصبيةُ صديقتَها لأن الشيخَ أفتى بألا تصاحبَ إلا محجبةً! وموسيقيٌّ يبتكرُ قطعةً من الشَّدو ترتقى بذائقة الناس، أولى بالوطن من رجلٍ يُكسّر قضبانَ السكك الحديدية ليبيع فولاذَها للعابرين. ومُعلّمٌ يتقنُ تعليم تلاميذه أصولَ اللغة وأسرارَها، أولى بالوطن من ذميمٍ يتحرّشُ بالصبايا فى الحافلات والطرقات. وحارسٌ يقف على باب كنيسة يدفع بصدره المكشوف شظايا حزام ناسفٍ، كيف يتساوى مع تاجر يبيع الخَدَرَ لأطفال لا يدرون من أمرهم شيئًا؟! والفارسُ الذى وقفَ فى وجه العالم لينقذَ شعبَه من فاشية إرهابية كان لا فكاكَ منها لولا أنْ لا سمَحَ اللهُ، كيف يتساوى بجاسوس كان ينتوى أن يجعل من مصرَ العظيمةَ إمارةً تابعةً لا تملكُ زمامَ أمرِها؟!
هل يستوى الطِيْبُ والدَّنس، الراقى والرقيع، الجميلُ والقبيح؟ لهذا أعلنُ اليومَ إيمانى بأن الدينَ كلَّه للهِ العليّ العظيم، ولكن الوطنَ، فقط لمَن يحبّون الوطن.
نقلا عن المصرى اليوم