عنب لذيذ فى احتفال العام الجديد
مقالات مختارة | د. نوال السعداوى
الاربعاء ٢ يناير ٢٠١٩
دعتنى صديقة العمر للاحتفال بالعام الجديد، 2019، فى بيتها الفاخر بالقطامية الجديدة، التى نزح إليها بعض الأثرياء الجدد، هربوا بعائلاتهم بعيدا عن فقراء إمبابة والكيت كات، وسكان المقابر تحت سفح المقطم، أصحاب البلايين، نساء ورجال البزنيس والانفتاح، يملكون المصانع المحلية وتوكيلات الشركات الأجنبية، يتحكمون فيما نأكل من خضراوات وفاكهة، أصبحت مثل جلد الأحذية، يلوثون مياه النيل بفضلات مخلفاتهم الصناعية، لنشرب الماء من الزجاجات البلاستيك، وقد نزح معهم أصحاب المهن الحرة الكبار، منهم الأطباء الأساتذة، يتحكمون فى صحتنا ومرضنا، وحياتنا وموتنا، يملكون العيادات والمستشفيات الاستثمارية، لا يمكن، لأمثالى من سكان شبرا، أن يقتربوا منها.
لم أعد أملك ثمن الكشف الطبى لنزلة برد طارئة، فما بال السرطان أو السكتة القلبية أو الجزام، لم أعد أشارك فى الاحتفالات بالسنة الجديدة أو القديمة، يسقط عيد ميلادى من ذاكرتى ، وأنسى أعياد ميلاد الأنبياء والأولياء الصالحين، تغيرت الدنيا وأصبح الصالح طالحا، وأنا تغيرت أيضا، لم تعد الأنوار تبهرني، ولا المهرجانات والجوائز، ولا الفساتين المكشوفة أو الشوارب المفتولة، لم يعد المديح يسعدني، ولا الشتائم تؤلمني، أفرح بفنجان شاى له طعم الشاى الحقيقي، وحبة عنب لها طعم العنب، أو قطعة طماطم لها طعم الطماطم، أو إنسان له طعم الإنسان، لم يعد لأى شيء فى حياتنا طعمه الحقيقي، حتى الإنسان والصداقة والحب والوفاء بالوعد.
لم أعد الفتاة الممشوقة، التى تسبح فى البحر وتصعد فوق الأمواج، أصبحت أجلس على الشط، أمد ساقى بحرص فى الماء، وأسحبها بسرعة، قبل أن تجرفنى الموجة، أمشى بحذر فوق الأرض، أتأكد من صلابتها تحت قدمي، أخشى التعثر فى طوبة، أو السقوط فى حفرة ، أو بالوعة مجاري، كنت أصحو مع شروق الشمس أغنى كالعصافير، وأطير للحب والصداقات، كان الحب يحوطني، والصداقات تغرقني، والأمل يملؤني، والطريق للسماء مفتوحا على مصراعيه أمامي.
كنت أتأمل نفسى فى المرآة، فأدرك من حيث لا أدرى أننى أذكى وأجمل البشر، النساء والرجال، على السواء، أهمس لنفسي: لم يخلق العالم الذى يستحقك يا نوال، ولا الإنسان الذى يروقك، ما هذه الثقة الطاغية فى قوة جسمى وعقلي؟ كان يمكن أن أضرب الجدار بقبضة يدى ليسقط، لا ينحنى رأسى للريح، ولا تنكسر عينى أمام الجبابرة، كانت جدتى تحملق فى النار المشتعلة فى حدقتي، وتقول لأمي: هذه البنت، لو عاشت يا زينب، فلن يهزمها شيء، انحفرت كلماتها فى عقلي، فأصبحت أتحدى الكون، دون أن يرف لى جفن.
قالت صديقتي: لماذا ترفضين دعوتى يا نوال؟ سأرسل إليك السيارة وعندى لك مفاجأة، قادرة دائما على إغرائي، رائحة الثراء والراحة، جسمى مرهق بالعمل الدائب وسوء التغذية، ونزلات الحر والبرد دون علاج، تحركت السيارة بلا صوت، كسفينة تمشى فى بحيرة ساكنة، أو تنزلق فى الهواء، عيناى تنفذان خلال الزجاج المزدوج المحكم الإغلاق، لأرى عالم الأشباح، كنت أنتمى لهذا العالم منذ لحظات، كتل البشر الواقفة أمام الشبابيك بالقضبان الحديد، الأيادى المعروقة الممدودة فى الهواء، وجوه الأطفال المتغضنة كالعجائز، أجسام النساء كالرجال داخل الجلاليب الكالحة، رءوسهن ملفوفة بالحجاب أو النقاب، مد طفل ذراعه كالعصا الخشبية ليمسح زجاج السيارة بفوطة صفراء، فانتفض السائق بحركة الأسد فى عرينه، الأنوار تزين الشوارع الواسعة على جانبيها الأشجار، الأحياء الراقية تتهادى مع النسمة الناعمة، المحال الفاخرة تتكدس بالحلوى والمشهيات، والفاكهة ولعب الأطفال والمشويات، وفساتين النساء وبدل الرجال، الزحام على الشراء والإنفاق والاستهلاك، المرأة بطفلها الرضيع ترقد فوق الرصيف، قد يدوس على قدمها حذاء جديد سعيد بالعيد.
فى الفيلا الفاخرة كانت صديقتى تتألق فى فستان يلمع تحت الأضواء، من حولها نخبة القوم، كبار الأطباء والمفكربن والأدباء والوزراء والمهن الحرة، المائدة ممدودة بكل ما تشتهيه الأنفس والموسيقى تعزف، الشباب يرقص، الشيوخ يرشفون من كئوس من البللور، تصطك فيها قطع الثلج، تتطاير الضحكات والقفشات فوق دخان السيجار والبايب. تكدس صديقتى الطعام فى صحني، والحلوى والفاكهة، أقضم بأسنانى على حبة عنب لذيذة وأسألها: من أين تشترى العنب يا صديقة؟
نقلا عن الأهرام