الجنادرية تنتصر للتعددية
مقالات مختارة | سليمان جودة
الخميس ٣ يناير ٢٠١٩
كنت حاضراً على منصة الاحتفال في قرية الجنادرية التراثية، التي تبعد عن الرياض ما يقرب من خمسين كيلومتراً، عندما وقف الأمير خالد بن عياف، وزير الحرس الوطني السابق، يخاطب خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، فيقول: «إنه لمن حُسن الطالع أن يأتي تشريفكم لأبنائكم في الجنادرية، تزامناً مع الذكرى الرابعة لبيعتكم مليكاً، وقائداً، ورمزاً، وعزاً، لهذا الوطن».
كان ذلك في العشرين من ديسمبر (كانون الأول)، الذي وافق افتتاح الدورة الثالثة والثلاثين، للمهرجان الوطني للتراث والثقافة، وهو المهرجان الشهير بمهرجان الجنادرية، وكانت دورته الجديدة قد بدأ انعقادها في ذلك اليوم، ولا تزال منعقدة لأيام مقبلة، تحت هذا الشعار: «ولاء ووفاء».
ولم تكن المناسبة مناسبتين جاءتا في توقيت واحد فقط: الذكرى الرابعة للبيعة، ومعها الدورة الجديدة للمهرجان الوطني، ولكن مناسبة ثالثة كانت هناك أيضاً. هذه المناسبة الثالثة هي الاحتفال الذي أقيم احتفاءً باختيار العاصمة السعودية، عاصمة للإعلام العربي. ففيها احتشد وزراء الإعلام العرب، ومعهم عدد كبير من رجال وخبراء الإعلام من كل عاصمة عربية، وفيها جرى إلقاء كلمات كثيرة، وعرض أفلام تسجيلية عن المناسبة أكثر، وفيها كذلك تجدد السؤال عما يجب على إعلام كل بلد عربي أن يقوم به من مهمات تنتظره، في وطنه الأم وفي وطنه الأكبر، ولا يستطيع سواه القيام بها في مثل هذا الظرف العربي العصيب!
والغالب أنه لا مهمة للإعلام، والحال العربي على ما نراه عليه، سوى العمل الجاد على نشر الوعي باللحظة بين المواطنين العرب؛ لأنه لا قدرة لعربي على التعامل مع مخاطر بلا حصر تحيط ببلده في حدوده، ثم بوطنه العربي الأكبر في امتداده، إلا بدرجة من الوعي تجعله يرى ماذا يجري حوله، وبماذا عليه أن يواجه، ويتصرف، ويتفاعل.
وهكذا، اجتمعت للرياض احتفالات متزامنة على مستويات ثلاثة: مستوى إعلامي جاءها بعد القدس التي كانت عاصمة للإعلام في العام قبل السابق، وبغداد في العام السابق، ثم مستوى سياسي جاءها للمرة الرابعة احتفالاً بالبيعة، وأخيراً مستوى ثقافي يجيء للمرة الثالثة بعد الثلاثين.
ولأن مهرجان الجنادرية مناسبة تراثية وثقافية، توالى انعقادها على مدى أكثر من ثلاثة عقود منذ بدايتها، فإنها تظل موضع ترقب وانتظار من عام إلى عام، ليس فقط من جانب السعوديين المهتمين بقضاياها ذات الطابع الثقافي التراثي، ولكن كذلك على مستوى زوارها الذين يتوافدون عليها سنة تلو أخرى. إنها فرصة تتاح دورياً أمام شتى المناطق في المملكة، لعرض ما تملكه كل منطقة من الفنون الشعبية، والصناعات اليدوية، والموروثات التي يأخذها جيل عن جيل، فلا يأخذها لمجرد حفظها في مكانها، وإنما لعرضها على الذين يجدون شغفاً عالياً في تتبع شكل الخطوات التي وصلت بالمسيرة إلى هنا، وكيف كانت خطوات في أنحاء الجزيرة العربية متنوعة، وغنية في الوقت ذاته!
ومن عادة الجنادرية أن تختار دولة تكون هي ضيف الشرف في كل مرة، وهذه السنة كانت إندونيسيا ضيفاً على المهرجان، وكان اختيارها موفقاً إلى حد بعيد، ليس لأنها أكبر دولة إسلامية من حيث عدد سكانها، فالعدد قد يكون مهماً في حالة كهذه؛ بل هو مهم، ولكنه في مناسبة من نوع الجنادرية يتأخر قليلاً، لتتقدم عليه أشياء أخرى. وما يتقدم عليه ليس أن الوطن الإندونيسي يضم سبعة آلاف جزيرة، فإندونيسيا تنفرد بين بلاد العالم فعلاً بهذا العدد الضخم من الجُزر، ولا تكاد دولة غيرها تنافسها فيه، غير أن هذا بدوره، مع أهميته طبعاً، لم يكن فيما يبدو هو سبب اختيارها ضيفاً للشرف!
السبب يبدو شديد الارتباط بـ«رسالة» يريد المهرجان أن يبعث بها في كل عام، فيقول وهو يعرض التنوع والثراء في تراث مناطق المملكة كلها، إن التنوع هو دائماً قوة، وإنه يضيف إلى الكيان العام للدولة، ولا ينال منها، ولا يخصم من عافيتها. إن هذه هي «الرسالة» التي ترغب الجنادرية في التأسيس لها، وفي ترسيخها، وفي تحويلها إلى قناعة لدى الجميع في هذه الدورة على الأقل.
فإندونيسيا بلد تسكنه 724 مجموعة عرقية بثقافات ولغات مختلفة، وهو بلد يعرف خمس ديانات بخلاف ديانة الإسلام التي تدين بها الغالبية، ومع ذلك فالشعار الذي يرفعه كل إندونيسي، والذي كان مرفوعاً على باب كل قاعة عرضت التراث الإندونيسي في المهرجان، هو: «الوحدة في التنوع».
الوحدة، لا الفُرقة أبداً، هو الدرس الباقي في التنوع، وهو الخيط غير المرئي، الذي يشد سبعة آلاف جزيرة إندونيسية، فيجعلها وطناً لكل مواطن، بصرف النظر عن لغته، وديانته، ومجموعته العرقية، وكل ما عدا ذلك مما يمكن أن يراه في نفسه، ولا يراه في مواطن آخر يحمل الجنسية الإندونيسية نفسها!
وفي الوقت الذي كانت فيه بوان مهاراني، وزيرة التنمية البشرية والثقافية الإندونيسية، تشرح هذه المعاني في افتتاح المهرجان، ثم تقدم في جناح بلادها ما يشير إلى أن ما جاءت تشرحه يمثل حقيقة في تراث البلد، وفي ثقافته، وفي فنونه، كان الشيخ مهدي الصميدعي، مفتي الديار العراقية، يفعل العكس على طول الخط وعرضه، ويعزف لحناً كامل النشاز، فيقول وهو يخطب يوم الجمعة الماضي في المصلين من فوق المنبر: «لا يجوز الاحتفال برأس السنة، ولا التهنئة بها، ولا المشاركة فيه»!
كيف يقول بهذا الكلام رجل دين يعيش معنا في القرن الحادي والعشرين؟! كيف يقوله وهو يعيش في بلد متنوع بطبيعته، ويضم شعباً لا سبيل إلى أن يكون له مكان على الخريطة، ولا مكانة بين الأمم، إذا لم يعتقد عن يقين في أن قوته في تنوعه، وأن تنوعه مصدر من مصادر قوته، وربما المصدر الأقوى والأهم؟! كيف يقول بهذا رجل يحفظ آية واحدة من القرآن الكريم؟! كيف يصل به الأمر إلى حد الاعتقاد بأن الاحتفال برأس السنة، أو التهنئة بها، أو المشاركة فيه، هي على حد تعبيره: «انتصار لليهود والنصارى»؟! كيف يمكن للعراق أن يملك مناعته ضد أمراض العصر التي تفتك ببلاد من حولنا، إذا كان هذا هو إيمان رجل الفتوى الأول فيه؟!
يحتاج الشيخ الصميدعي إلى أن يراجع نفسه، لعله يكتشف أن ما قال به لا يقول به عاقل، فإذا لم يراجع هو نفسه، وسريعاً، فإن على السلطة الأعلى في الدولة أن تراجعه لترجعه عما نطق به من هذه المعاني القاتلة!
إن التنوع في كل بلد لا بديل عن أن يظل مناعة طبيعية تحميه من الآفات الكامنة والوافدة معاً، فإذا غابت المناعة عن جسده، صار نهباً لكل مرض، وعبئاً بين الأمم.
ليت الشيخ الصميدعي يدعو مسلمي بلاده إلى أن يشاركوا اليهود فيها والنصارى احتفالاتهم الاجتماعية، ففي المشاركة من هذا النوع انتصار للعراق كله، قبل أن تكون لليهود فيه أو للنصارى!
نقلا عن الشرق الأوسط