الأنبا مكاريوس يكتب.. من هو الأعظم؟
مقالات مختارة
مقالات مختارة | بقلم : الانبا مكاريوس
٠٧:
٠٣
م +02:00 EET
الخميس ٣ يناير ٢٠١٩
تدور قراءات اليوم حول هذه الفكرة: "من هو الأعظم؟"، ويقرأ هذا النص في تذكار نياحة القديس يحنس القصير باعتباره بسيطا مثل الطفل الصغير الذي اقامه المسيح في الوسط ليعلن ان ملكوت السموات اقرب لمثل هؤلاء، وكذلك في تذكار نياحة القديس بولا السائح الذي انتصر على حرب "الاعظم" بتنازله عن الميراث، واختياره المتكأ الأخير، واعتزاله العالم بكل من فيه وكل ما فيه راضيًا مسرورًا.
وتبدأ قصة النصيب الأعظم بالفهم المادي لملكوت المسيح، فعندما قال الرب لتلاميذه: «متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده ... تجلسون أنتم على اثني عشر كرسيًا» (متى 19: 28، 29) ، من ثَمّ اتجهت أنظارهم على الفور إلى توزيع الوزارات..! وأوعزت الأم الطيبة سالومي إلى ولديها يعقوب ويوحنا بأن يطلبا المقامين الأول والثاني في تلك المملكة، مثلما نقول الآن "وزارات سيادية"، مع أن الرب نبههم أكثر من مرة إلى أن مملكته ليست من هذا العالم.
وعلى مستوى الطقس اليهودي كان الابن الأكبر يجلس عن يمين رب الأسرة بينما يجلس الأصغر عن شماله، ولكن السيد عندما أشار إلى أن تلاميذه سيجلسون على اثني عشر كرسيًا ويدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، كان يعني بذلك أنهم "سيبكّتون" اليهود الذين رفضوه، مثلما قيل أيضًا عن رجال نينوى الذين سيقومون في الدينونة مع رجال "هذا الجيل" ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان، أي يبكّتونهم ببرهم لأنهم تابوا بمناداة يونان.
وربما يكمن السبب في طلب الأم والابنين معًا هذا الامتياز هو صلة القرابة التي بين العائلتين من جهة، والوضع الاجتماعي المتميز لعائلة زبدي، وكذلك الامتياز الممنوح للتلميذين مع القديس بطرس في اصطحاب السيد لهم في المهام الخاصة (مثل الذهاب بيت يايرس، وجبل التجلي، وبستان جسيثماني)، بل لقد تذمّر بقية التلاميذ من ذلك، وهنا عاتبهم الرب قائلا: «إن رؤساء الأمم يسودونهم، والمتسلطين عليهم يُحسبون محسنين»، أي أن الرئاسة تغري بالتسلّط، وأن المتسلطين يأخذون أجرهم من خلال مديح الناس لهم "بإذاعة أنهم محسنون" (أي الإعلان عن إحساناتهم، وبالتالي يستوفون أجرهم)، وأكّد لهم أن سر العظمة يكمن في الاتضاع واتخاذ المتكآت الأخيرة، وأعطى ذاته مثالاً؛ فبالرغم من أنه الرب والسيد والإله، إلا أنه جاء لا ليُخدَم بل ليَخدِم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين.
لقد حزن الرب من تفكيرهم هذا إذ كان للتوّ قد تحدّث معهم عن الصليب، وأن مملكته ليست من هذا العالم، وأنه مجدًا من الناس لا يقبل.
لقد حزن الرب من تفكيرهم هذا إذ كان للتوّ قد تحدّث معهم عن الصليب، وأن مملكته ليست من هذا العالم، وأنه مجدًا من الناس لا يقبل.
إن مشكلة الناس في العالم هي: "من هو الأعظم والأقوى والأغنى والأشهر؟"، صراع الأشخاص وصراع الحكومات والعائلات، فهناك العِرقية والقبلية والتنافس بين العائلات، وهناك صراع التسلح والاقتصاد والقوة النووية بين الشعوب، ولكن السيد أراهم طريقًا أفضل للعظمة الحقيقية وهو الاتضاع والبساطة، فأخذ طفلاً وأقامه في الوسط واحتضنه، وقال إن من لا يقبل ملكوت السموات مثل هذا الطفل فلن يدخله، وأعلن بالتالي أنه يحتضن البسطاء والضعفاء والمتضعين، وهكذا فإن الكثير من القديسين أخذوا الملكوت بالفقر والعوز – مثل الأنبا بولا – وذلك بالتواري عن الكل، ومنهم من أخذه بالضيقات والآلام والأمراض، ومنهم من جعل نفسه جاهلاً لكي يحكّمه الله.
غير أن العظمة والغنى والشهرة ليست هي الخطر الحقيقي، وإنما السعي لها والرغبة فيها هي الخطورة بعينها، مثل المال الذي لا يعد بذاته خطرًا، بل تكمن الخطورة في السعي إليه ومحبته والاتكال عليه. كما يجب الانتباه إلى أن المشكلة الحقيقية هي "الأعظم"، أي أنه قد لا يهتم الإنسان بأن يكون عظيمًا قدر اهتمامه بأن يكون الأعظم والأغنى والأقوى .. قد لا يعنيه كم معه من المال ولكن المهم أن يكون ما معه أكثر مما مع الآخرين!، من أجل التفوق فقط لا غير. هنّأت طفلاً ذات مرة لأن ترتيبه كان الأول، ففاجأني بقوله: "لا يهمني أن أكون الأول قدر اهتمامي أن أحصل على أفضل الدرجات، دون مقارنة مع آخر"، ولما سألته عن السبب أجاب بأنه من الممكن أن يكون ترتيبه الأول ولكن بمجموع هزيل! فتأثرت من فكره ومنطقه.
وأراد الرب اختبار التلميذين إن كانا يستطيعان أن يشربا الكأس التي يشربها هو، وأن يصطبغا بالصبغة التي يصطبغ بها هو، أي أن يجوزا الآلام عينها وسفك الدم، وأبدى التلميذان فورًا استعدادهما لذلك، فأجابهم الرب بأنه حتى وإن كان هذا صحيحًا، فإن الجلوس عن اليمين وعن اليسار له حسابات أخرى.
إن الطريق الحقيقي للعظمة كما رسمه السيد المسيح هو الاتضاع والعوز والمتكأ الأخير وطلب ملكوت السموات وبره، لأن هذه كلها (الأعظم) تطلبها الأمم، فقد يتطلّب الوصول إلى الغنى والعظمة والقوة سبلاً غير شريفة، وهذه الرغبة يمكن أن يُطلق عليها: "اللص السلاّب" الذي يسرق منّا الملكوت، فمنطق الملكوت هو "الأضعف والأصغر والأفقر"، فالمسيح يسكن مع الفقراء بين الأكوام وفوق التراب، وبين المرضى والمتعبين، ويحب المتضعين.
أخيرًا.. فالذين يُمدَحون هنا قد يُكافَأون هنا، وربما مُدِحوا في الظاهر ولُعِنوا في الباطن، كما أن: "الفضيلة إذا اُشتُهرت نُهِبت".
نقلا عن الفيس بوك