اللغة العربية.. المعجزة والعاجزون!
مقالات مختارة | د. ياسر ثابت
٢٧:
٠٢
م +02:00 EET
الخميس ١٠ يناير ٢٠١٩
د. ياسر ثابت
لا يتجاور الإعجاز مع العاجز.. ولا يصنع العجزة معجزة!
ظهر في العقدين الأخيرين جدلٌ حول اللغة العربية كناقل أمين للتراث الفكري العربي ومكانتها في التطور الحداثي واستعمالاتها في المجتمع الذي يحمل في ثناياه خصائص اللغة والقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والسياسية كأي لغة أخرى. أخذ كثيرون على اللغة العربية أنها اليوم أصبحت غير قادرة على مواكبة «عالم المعرفة»؛ ما جعل العرب في مرتبة ضعيفة لا تقارن بما وصل إليه الغرب في إنتاج المعرفة. ويستمر الجدل حول اللغة وتقانة المعلومات والذكاء الاصطناعي الذي يتعدى على اللغة ومكوناتها كأحدٍ حامل وناقلٍ للتراث.
للإنصاف، فقد هُمِّشت اللغة العربية في زمن سريع التغير، وهو ما خلق فجوة في كيفية استعمال اللغة واستغلالها أمام تحديات الحداثة المعاصرة، ولعل هذا يعود أيضـًا لغزارة دفئها بالمصطلحات الحضارية وعمقها التراثي من علم الكلام، والعلوم الفلسفية وعلوم المنطق والعلوم الطبيعية والطبية والهندسية والرياضية المنحدرة من الرواد الأوائل الذين تميزوا بالحكمة والتعقل.
اللغة العربية في عالم اليوم أرفع منزلة من الناطقين بها. هي لغة المعرفة وهُمْ مصنفون بين الأمم نكرات، وهي قابلة للاشتقاق وهم في حال من الجمود، مقصرون في حقِّ اللغة العربية، ناكصون عن تطويرها في حقول معرفتهم، متقاعسون عن بذل الجهد. وفي المحصلة، هي معجزة فيما هم عاجزون.
الشاهد أن العربية كانت لغة الأدب، والعلم، والتقنية في العالم لأكثر من خمسة قرون؛ وبالتحديد من القرن التاسع الميلادي إلى القرن الرابع عشر. اتسمت لغتنا بكونيتها وانغراسها في صميم النسيج الحضاري الإنساني، وكان وضعها في العالم يشبه الآن وضع الإنجليزية إلى حد كبير. وقد اتسمت طوال قرون بثراء معجمها، ومرونة تراكيبها. وبالتالي فإن الوعي بالتاريخ المشرق للعربية يقلل من الشعور المهين بالتراجع الحضاري في العصر الحديث، ويجعلنا نعي أن التراجع الحضاري للعرب والعربية ليس نتاجـًا لأسباب مرتبطة بالعرب بوصفهم عِرقـًا، ولا بالعربية بوصفها لغة، بل بجملة من أسباب أخرى، يمكن تجاوزها في المستقبل، إن نحن أخذنا بأسباب الإصلاح والتطوير لغويـًا وحضاريـًا.
بدأت لغتنا في الانحدار بعد أن رحلت قوات الاستعمار. بدأنا نستقبل الخطأ دون رعب، ثم دون تأفف، ونرتكبه دون حياء، حتى وصلنا إلى هذا الدرك؛ إذ تحوَّل القاموس إلى مقبرة، وصار الجهل باللغة شرطـًا لتولي الوظائف الكبرى، فصرنا نسمع ونقرأ ما يندى له الجبين في محاضرات جامعية ومرافعات أمام المحاكم، وخطب في البرلمان ومقالات في الصحف.
في السابق، كان الجاهل باللغة لا تأثير له على الناس، حيث يظل جهله محصورًا فيه أو على الأقل في فئة قليلة ممن يحيطون به، أما اليوم فإن الوضع اختلف وصار الجاهل ينشر جهله بين الناس ذات اليمين وذات الشمال كفيروس لا يمكن التحكم به، خصوصـًا حين يكون الجاهل كاتبـًا في صحيفة مقروءة، أو مذيعـًا في قناة تليفزيونية، أو معلقـًا رياضيـًا، أو مغردًا ذا شعبية، أو غير ذلك من الأعمال التي لها اتصال واسع بعامة الناس، فمثل هذه الأعمال تسهم في سرعة نشر الخطأ اللغوي بين الناس؛ لأن العاملين فيها يعدون نجومـًا لامعة في أعين الناشئة وغيرهم من العامة والبسطاء، وحين يخطئون في معاني اللغة، سرعان ما يقتدون بهم في أخطائهم ظنـًا منهم أنها صواب.
اليوم، ثمةُ نصوصٌ يسعى أصحابها إلى اختزالها، فتخرج في النهاية ممسوخة، مُشوَّهة، تنوء بأخطاءٍ جسام. مِن هذه الأخطاء ما يقوّض بناءَ اللغة، وما يضرب عمقَ المعنى.
في كتابه «حرب اللغات والسياسات اللغوية»، يوضح لويس جان كالفي، كيف صارت اللغة بما هي رموز ثقافية ووعاء فكري، إحدى أدوات الصراع والهيمنة فيما نسميه عصر العولمة، خاصة أن سلطة اللغة هي «الوسيط الأولي للسيطرة الاجتماعية والسلطة» . زادت توقعات المواجهة المباشرة بين الأنساق الثقافية واللغوية لتتحول إلى «حرب لغات» طاحنة، تسعى كل لغة إلى اجتثاث اللغة المنافسة لها، تمهيدًا لما بتنا نسميه «استعمارًا ثقافيـًا».
إن العربية كائنٌ حي له عمقٌ تاريخي وامتداد في الراهن والمستقبل، ومن المهم أن نعمل على تشخيص وضعها وتدبُّر عوائق استخدامها والبحث في سبل الحفاظ عليها وإحيائها وترقيتها.
في عدد إبريل 1931، أجرتْ مجلة «الهلال» استفتاءً، عنوانه «حضارتنا القادمة فرعونية أم عربية أم غربية؟»، وكانت مشاركة د. طه حسين تشي بأن الخليط الحضاري هو سرُّ التنوع والرسوخ، فأوصى بـ«أن نحتفظ من الحضارة المصرية القديمة بما يلائمنا وهو الفن، ومن الحضارة العربية بالدين واللغة، وأن نأخذ من الحضارة الأوروبية مكل ما نحتاج إليه، وليس في هذا شرٌ ما دمنا نحتفظ بشخصيتنا المصرية، فلا تفسد علينا هذه الحضارة الأوروبية حياتنا، على أننا أمةٌ لها مقوماتُها الخاصة».
لا نريد أن تخرج العربية عن النص، وأن تبقى هي المتن؛ لأنها هويتنا قبل أن تكون لغتنا.
واللغة، كما الهوية، ليست ترفـًا.
نقلا عن مصراوي