ثقافة فى حالة جيتو (89)
مقالات مختارة | مراد وهبة
الجمعة ١١ يناير ٢٠١٩
عنوان هذا المقال هو عنوان المقال الافتتاحى للجزء الخامس والأخير من «المشروع الأصولى» الذى تبنته جامعة شيكاغو بموافقة من «الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم». والمقال بقلم الفيلسوف اليهودى الأمريكى عمانوئيل سيفان وهو أحد الخبراء الأربعة المشرفين على ذلك المشروع.
وسيفان فى صياغته لعنوان مقاله يريد أن يكون علامة على ثقافة تريد لنفسها أن تكون فى حالة جيتو، أى فى حالة «منفى» على حد تعبيره فى مفتتح مقاله. ثم هو يزيد الأمر إيضاحاً بما حدث إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى عندما قال ناثان ميرنبوم إنه كان فيما مضى يهودياً علمانياً ثم أصبح مؤمناً يخاف الله، كما أصبح على دراية بالتلمود فى حين أن ابنه ينتهك حرمة يوم السبت الذى يمتنع فيه اليهود عن العمل. ولم يكن ابنه وحده هو الذى يمارس عملية الانتهاك بل إن اليهود الأوروبيين، بسبب التنوير الأوروبى، قد توقفوا عن ممارسة الطقوس وعن الإحساس بالعناية الإلهية. وما حدث لليهود الأوروبيين حدث لليهود الذين هاجروا بالآلاف من أوروبا الشرقية إلى أمريكا، وهو أنهم تخلوا عن دينهم فى هذا «البلد النجس». بل حتى اليهود الذين لم يهاجروا فبالرغم من أنهم ملتزمون بالشريعة فى سياق طقوسها أو فى سياق علاقاتهم الاجتماعية إلا أن إيمانهم كاد أن يتوارى. ومن هنا بدأ الحريديم يشعرون بأنهم «فى المنفى» وهم وسط اليهود. ولا أدل على صحة ذلك الشعور من أن مجلة أسبوعية محافظة فى خريف عام 1990 وصفت عضو يسارى بالكنيست بأنه «نازى» فأدينت من قبل المحكمة. وكان تعقيب المجلة أن الحكم يشى بنقد لاذع للحريديم ينم على أنهم بالفعل يعيشون فى المنفى وسط اليهود، بل إن الحكم يدعو للسخرية إذا أضفنا إلى ذلك النقد أنهم يقيمون فى «الأرض المقدسة».
والمفارقة هنا أنه فى الوقت الذى صك فيه ميرنبوم مصطلح «فى المنفى» تساءل رشيد رضا وهو سورى وصاحب مجلة «المنار» التى يصدرها فى القاهرة: «كيف حال الإسلام؟». وكان جوابه أن الذين يقولون عن أنفسهم إنهم مؤمنون ليسوا إلا «مسلمين جغرافيين»، أى أنهم مسلمون بحكم أنهم يعيشون فى أرض إسلامية بلا ممارسات طقوسية. ومن هنا يمكن القول إن إيمانهم فاتر بسبب التزامهم بقوانين من صنع البشر بديلاً عن قوانين من صنع الله مثل ضرورة قطع يد السارق ورجم الزانية. ولا أدل على صحة ما يقوله رشيد رضا من شيوع مصطلح «أفول الإسلام» بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، ونهاية الخلافة الإسلامية فى تركيا فى عام 1924.
والمفاجأة هنا أن اثنين من فقهاء المسلمين لم يستسلما لذلك الأفول وهما: مولانا المودودى فى نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين وسيد قطب فى نهاية الأربعينيات من ذلك القرن. وقد أقر الاثنان أن المسلمين يحيون وكأنهم مازالوا، منذ ثلاثة عشر قرناً، أقلية محاصرة من عبدة الأوثان. ومن هنا قيل عن الإسلام إنه فى «غربة» مع أنه على أرضه، وإنه بذلك يماثل زمن النبى عندما كان فى مكة.
والسؤال عندئذ:
ماذا حدث بعد ذلك؟
نقلا عن المصري اليوم