الأنبا موسى يكتب: التقدم التكنولوجى.. إلى أين؟!
مقالات مختارة | بقلم : الأنبا موسى بقلم :الأنبا موسى
٠١:
١١
م +02:00 EET
السبت ١٢ يناير ٢٠١٩
لاشك أن الطفرة التكنولوجية التى نحياها الآن، لها أبعاد إيجابية كثيرة، فهى تتيح قدراً كبيراً من:
1- تدفق المعلومات: التى أصبحت متاحة بسرعة هائلة، وكمية مذهلة، واتساع شامل، يضم كافة فروع العلم والمعرفة والأخبار.
2- تواصل الإنسان: فأصبح من السهل جداً أن يتواصل الإنسان بالعديد من البشر، من خلال الرسائل القصيرة على المحمول، أو الـ Viber أو الـWhatsApp أو الـ Messenger أو الـ Telegram أو الـ E-mail، أو الـ Face time أو إرسال الصورة لحظة التقاطها، أو مشاهدة من يتحدث معه، وبينهما آلاف الأميال... إلخ.
3- توحيد العالم: فى كتلة سكنية واحدة، فما يحدث فى أصغر قرية، يحسّ به- فى نفس لحظة وقوعه- كل العالم، وبالتالى يتفاعل معه، مما يعطى فرصة للمقهورين والمظلومين أن يتعرف الناس على قضاياهم العادلة، ويتفاعلوا معها.
4- تقارب البشر: فنتج عن هذا كله نوع مما يسمى «الثقافة الكوكبية» (Global Culture)، التى تجعل الأجيال الجديدة تتقارب فكرياً وسلوكياً من بعضها البعض، مما خلق نوعاً مما يسمى «المواطن العالمى» (Global Citizen).. حين يتشابه البشر فى اهتماماتهم وملامح حياتهم.
■ ■ ■
لكن هذه الإيجابيات يمكن أن تكون سيفاً ذا حدين، فهناك محاذير ومخاطر لا بد من الانتباه إليها، لأن «عولمة الإنسان» و«إلهاء الإنسان» خطران محدقان بالبشرية. فالمكوث الطويل أمام الكمبيوتر لساعات ممتدة يومياً، جعل من الجيل الجديد جيلاً مفصولاً عن أمور كثيرة غاية فى الأهمية، فهو غير متفاعل مع أسرته ولا مع كنيسته ولا مع أصدقائه، إذ يجعله منحصراً أمام جهاز الكمبيوتر (الكبير أو الشخصى)، وجهاز المحمول، خالقًا منهما عالماً خاصًا به، وعازلاً نفسه عن أساسيات جوهرية فى الحياة الإنسانية.
أولاً: ربما تفصله التكنولوجيا عن الله:
بمعنى أنه لا يجد فرصة للحديث مع الله، أو قراءة الكتب المقدسة، ولا فرصة لخدمة الآخرين، والخطر يكمن فى «الانفراد بالتكنولوجيا»، و«الاكتفاء بها»، و«الاستغناء عن الجماعة الأسرية أو الاجتماعية»، فينفصل الشباب عن الله، وربما يسقط فى الضياع الروحى.
ثانيًا: وربما تفصله التكنولوجيا أيضًا عن نفسه:
«من يعرف ذاته يعرف الله، ومن يعرف الله يعرف زمانه» هكذا قال القديس أنطونيوس. وهكذا وضع القديس معرفة الذات قبل معرفة الله، ويقصد بذلك أن من يغص فى أعماق نفسه، سوف يجد الله فى داخله. فهو الذى خلقه وكامن فى أعماقه. وهذا كان اختبار القديس أغسطينوس، حينما كان يلهث- بالفلسفة- سعياً وراء الله، ولكن لما قرأ سيرة القديس أنطونيوس، غاص فى أعماقه، فوجد الله فى داخله، وآمن به قائلاً: «أنت كنت فىّ، عميقاً أعمق من عمقى، وعالياً أعلى من علوّى. أنت كنت معى، ولكنى- لشقاوتى- لم أكن معك».
إن فى أعماق الإنسان جوعاً غير محدود، وعطشاً إلى المطلق، لن تشبعه التكنولوجيا مهما تنوعت روافدها، فهى ما تزال محدودة، ولذلك فلن يشبع عطشنا غير المحدود، سوى الله غير المحدود.
ثالثًا: وربما تفصله التكنولوجيا عن أسرته:
إذ ينشغل بأجهزتها كالموبايل والكومبيوتر.. فيسقط فى نوع من الأنانية البشعة، لا يعبأ بأب أو بأم، ولا بأخ أو بأخت، ولا يفكر إلا فى نفسه، ونزواته، وطموحاته، وعالمه الخاص، كأصدقائه الذين يتواصل معهم على الشاشة الصغيرة، أو التليفون المحمول. وما أخطر التفكك الأسرى على النفس الإنسانية، الكبار المتروكين، أو الصغار الأنانيين!!.
إن الأسرة هى مصدر سعادة لا توصف، وبخاصة إذا كان الله- تعالى- هو «رب هذه الأسرة، والمستمع الصامت إلى كل حديث، والضيف غير المنظور على المائدة». وما أحلى أن يعطى الإنسان نفسه لله، فهذا هو سر السعادة كما قال الكتاب المقدس: «مغبوط هو العطاء، أكثر من الأخذ» (أع 35:20).
رابعًا: وربما تفصله التكنولوجيا عن أصدقائه:
إذ يختار منهم من يتوافق مع هذا العالم الخاص، وربما كانوا على بعد آلاف الأميال، يتبادل معهم الرسائل والمواد، وربما الإثارة والخطيئة.. ويكتفى بإدمان هؤلاء، منفصلاً عن أصدقائه فى مكان العبادة أو المدرسة، وهكذا يحيا فى عزلة ووحشة دائمة، قد تقوده إلى الكآبة أو التوتر. وقد دلت الدراسات أن الدول المتقدمة تكنولوجيًا تستهلك من الـ Prozac الخاص بالاكتئاب، أكثر من الأسبرين. وهناك لديهم خطوط ساخنة، للتواصل مع المدمنين الساعين إلى العلاج:
خامسًا: وربما تفصله التكنولوجيا عن الثقافة:
فنحن نرى التقدم العلمى الهائل فى الغرب، والتراجع المخيف فى الثقافة.. العلم يتصل بالماديات، والثقافة تتصل بالروحيات.. والعالم كله يحسّ بأنه بدأ يغرق فى ثقافة المادة والاستهلاك، ويفقد اهتمامه بالثقافة الروحية: الدين، والإنسان، والخلود، والقيم، والفضائل.
سادسًا: وربما تفصله التكنولوجيا عن الهوية والتاريخ:
فينسى مثلاً أنه «مصرى» سليل الفراعنة العظام، أول حضارة فى التاريخ.. أو أنه «قبطى» ابن للكنيسة القبطية المجيدة التى أعطت العالم المسيحى علوم اللاهوت والرهبنة، والشهداء والكرازة.. أو أنه يؤمن بدينه، ويرتبط به.. وهكذا- إذ تضيع الهوية- يتساوى عنده كل شىء، ويحدث لديه نوع من «التسطيح».. فلا تمييز عنده لتاريخ أو دين أو عقيدة.
■ ■ ■
لذلك نحتاج- سريعاً- إلى صحوة شاملة تجعلنا نُحجِم هذا المخلوق المادى: (التكنولوجيات) حتى لا يتحكم فى المخلوق الروحانى، الإنسان، ويجرفه إلى انهيارات روحية وإنسانية وأخلاقية واجتماعية وثقافية لا نهاية لها.
■ ■ ■
المشكلة- إذن- أننا يجب أن نتمسك بعجلة القيادة، ونقود نحن التكنولوجيا، بدل أن تقودنا هى إلى موارد التهلكة.. وذلك من خلال:
1- إحياء الجانب الروحى فى الإنسان، والاتصال بالله).
2- إنعاش الجانب الثقافى فى الإنسان، ليغوص فى أعماق نفسه، وأعماق الطبيعة والكون، ليقترب من أخيه، ومن الله، فى آن واحد.
3- تأصيل الهوية الشخصية للإنسان، فهو- مثلاً- مسيحى، أرثوذكسى، قبطى، مصرى، إنسان.. وهذه دوائر انتماء تجعله يستعمق جذوره، فلا ينقطع عن أصوله.
4- دراسة التاريخ الإنسانى عموماً، والمصرى والعربى خصوصاً، ليتعرف على دروس الماضى الحىّ، فما الحاضر إلا امتداداً للماضى، وما المستقبل إلا ثمرة للحاضر. ودروس الماضى يجب أن ترسم لنا خطط المستقبل.
■ ■ ■
تعالوا أيها الشباب نرفع شعاراً يقول: «دعنا نقود التكنولوجيا إلى ما فيه خير البشرية، بدل أن تقودنا هى إلى دمار محقق».. فالإنسان- فى النهاية- هو الذى أعطاه الله- بجانب العقل- الروح المتطلعة للخلود، حيث الله، والله محبة!!.
نقلا عن المصرى اليوم