رسائل لم أكتبها!
مقالات مختارة | مفيد فوزي
السبت ٩ فبراير ٢٠١٩
هناك رسائل، أحجمت عن نشرها فى حينها لأسباب متنوعة، فربما لم يسمح المناخ وربما خشيت الأذى وربما أرجأتها لوقت آخر، ولما لم يعد هؤلاء على قيد الحياة، فقد وجدت من الأمانة نشرها، فربما تضيف شيئاً للصورة الذهنية عن هذه الشخصيات فى مخيلتكم، وقد تضيف لمسة أو لمسات عن الشخصية مجهولة لكم، لكنى التزمت الصدق والأمانة فى الرواية، وإن صح أن أطلق على هذه السطور: فن أدب البوح.
■ إلى أم كلثوم
يا سيدتى، يا سيدة الغناء والصهللة وليالى الجمال المطرز بصوتك عشت منذ كنت طفلاً وبالأحرى صبياً أعشق صوتك وتلك الحالة من البهجة وأنت تنشدين «عزة جمالك فين»! وقد كنت أهرب من البيت أول كل شهر مدعياً المذاكرة مع صديق والحق أقول، كنت أنتظر إطلالتك على مسرح الأزبكية وجلال معوض بصوته الشجى الدافئ يزفك إلى المسرح ويسرح خيالى البكر فى الصورة فلم يكن هناك بعد تليفزيون! كنت أهيم بين «ياظالمنى» و«هجرتك» و«ياللى كان يشجيك أنينى». كانت الدموع تغافلنى دون أن يلمحها أحد وكان قلبى خالياً وفؤادى خالياً، ولكن صوتك- يا ثومة- كان كفيلاً باختراع قصة حب أعيشها طوال شدوك. ومرت سنون طويلة بعدها، دخلت الجامعة ولم يتغير ذوقى، وكان أستاذ اللغة العربية فى قسم إنجليزى د. عبدالحميد يونس يطلب منا أن نعد تقريراً مكتوباً عن جماليات قصائدك التى تغنينها ولعلها روجت فى الشارع للفصحى. واشتغلت بالصحافة مبكراً وقدر لى أن أرى رياض السنباطى ومن هيبة رسمتها له فى ذهنى خشيت أن أفتح معه موضوعاً. إنه موسوعة جمال فكيف ومن أين أبدأ..! وتمر سنوات البدايات وأدخل مجال الراديو عن طريق فوازير آمال فهمى ثم أعمل فى إذاعة الشرق الأوسط، وكنت من خلال صلاح زكى، أحد أعمدة ماسبيرو فى نشأته، قد تواصلت مع التليفزيون واقترحت على آمال فهمى برنامج «أوافق أمتنع» لشهر رمضان واختارت آمال فهمى مذيعته سناء منصور. وذهبنا نحاور الشخصيات وجاءت بعض الإجابات صادمة لك يا سيدتى وإن كانت تعبر بصدق، لكنك سيدتى لم تحتملى هذا الصدق واعتبرتِه تطاولاً، وكان المناخ معك والريح معك وطالنا جميعاً غضبك الكلثومى!
أمرتِ بعدم إذاعة أغانيك فى إذاعة الشرق الأوسط عقاباً لها على ما اقترفناه فى حقك! وطالنى شخصياً غضبك فقد أنهى وكيل وزارة الإعلام وقتئذ برنامجاً لى مع النجمة لبنى عبدالعزيز اسمه «الغرفة المضيئة» بحجة أنه استنفد أغراضه!! لم يستطع قلم واحد الدفاع عن إذاعة الشرق الأوسط خصوصاً أن البرنامج تسبب فى قضايا على بعض متحدثيها وأشهرها بين صلاح نظمى وعبدالحليم حافظ. وذهبت آمال فهمى إليك يا سيدتى ورفضت اعتذارها. كل الآراء التى قيلت فى حقك صادرة من عقول لشخصيات اعتبارية ولكن صدرك لم يتسع لها. حتى الأنبياء سيدتى تعرضوا للنقد، والنقد هو أحد بنود حلم الجمال. ما كان التواضع من سماتك يا عظيمة.. رحمك الله.
■ إلى د. يوسف إدريس
«قائم مقام الصحافة» كما كنت تسمى نفسك العزيز يوسف إدريس: أنت تعلم كم كنت أقدرك وأحب ذهنك الذى أمتع المصريين بقصصه ومقالاته النارية. كان مقالك يشى بصحافة فى أفضل أحوالها.. الكلمة الطلقة! وتعلم أنى أخصك بحواراتى الصحفية لاعتقادى الجازم أنك مختلف وآراؤك خارج الصندوق. ولهذا كنت ضيفى فى برامج إذاعية كنت أعدها أو أقدمها. الحقيقة يا د. يوسف كنت حالة من الحرية لم تعبر إلى الفوضى أبداً. كنت قلماً يتجول فى أرجاء مجتمع تكتب بحرية وبروح المسؤولية حتى عندما حصل نجيب محفوظ على نوبل، أيقظتنى من نومى قائلاً: حتى نوبل دخلت فيها اعتبارات سياسية!! واقترحت عليك أن نتحاور على صفحات صباح الخير وتعلن رأيك وذهبت إليك وحاورتك وكنت عند رأيك ونشر الحوار وأحدث ضجة أيام كانت صباح الخير الأشجع والأجرأ. وبعد أيام قلت لك مستئذناً، لقد اتصل بى إبراهيم سعدة وطلب منى بفطنته الصحفية نشر الحوار فى أخبار اليوم وإذا بك تغضب! لماذا؟ لست أدرى هل كنت اثنين يوسف إدريس، واحد جرىء والثانى متحفظ؟ هل يوسف إدريس رقم ٢ يراجع يوسف إدريس رقم واحد؟ قلت لك: إن النشر فى أخبار اليوم أكثر انتشاراً من صباح الخير سألتنى: بنفس العنوان «أنا أحق من نجيب محفوظ بالجائزة؟» قلت: نعم! قال يوسف همساً: كان ضرورى توافق على إعادة النشر؟ قلت: إن سعدة نشر الحوار والتزم بعبارة «عن صباح الخير» وهذه تقاليد صحفية.
الأغرب من هذا موقفك فى الحوار التليفزيونى المطول بعنوان «البركان»، حين سألتك فى نهاية حوارنا وهو: هل صحيح أنه من الممكن أن تكون نجماً لامعاً ومؤثراً وكإنسان يبدو أقل من عادى؟
وإذا بك تقول بكل ثقة ورشد: كأنك تصف حالتى تماماً. وقلت: Cut.
ويفهم منها أن يأمر المخرج بوقف التصوير كناية عن نهاية البرنامج. وشكرتنى وأنت تودعنى!
فى منتصف الليل، دق جرس التليفون فى بيتى فاستيقظت مذعوراً على صوت سامية صادق مدير التليفزيون حينئذ وقالت: يوسف إدريس زعلان جداً وعايز يغير النهاية!
واندهشت من تناقضاتك. كيف انتبهت إلى خطورة ما قلت «كأنك تصف حالتى تماماً»؟! هل يوسف رقم ٢ انتبه لأهمية العبارة؟ هل كنت مغيباً وأنت ترد بثقة دون أى ضغط؟ وقد كان، ألغينا السؤال والإجابة وختمنا الحلقة بسؤال آخر هو: لو كانت حياتك قصة ما عنوانها؟
وقال يوسف إدريس: قصة قصيرة طالت قليلاً..!
رحل يوسف وهو غاضب منى وحاولت الرشيدة رجاء إدريس زوجته التدخل ولكن كان غضبه أكبر. من ماذا؟ لست أدرى!
■ إلى نزار قبانى
يا سيد الهوى وسفير الحب ومدرسة العشق، يا صديقى نزار. كيف تغضب منى يا أبوهديل وبيننا أمسيات طويلة وليال ثقافية توثق صداقتنا وتعمدها. لقد أجريت معك حوار العمر بتكليف من الصديق الكاتب عماد الدين أديب فى لندن، ذلك الحوار الذى كان «أطول قصيدة اعتراف». كنت أميناً فى نقل كل ما قلت على شرائط التسجيل. كان حوارنا سخياً وشهياً بفضل إجاباتك الغارقة فى بحور الشجن ومكحلة بالعشق. أعترف بأنى كنت أشعر بالمتعة والسلطنة وكأنك تعزف على ربابة حب مواويل الهوى. ونشرنا الحوار فى مجلة «كل الناس»، وكنت سعيداً بالحلقات. كنت أهاتفك فى عاصمة الضباب فتمطرنى بكلمات ثناء يتساقط منها عطر التقدير وكنت سعيداً بارتياحك للنشر والإخراج الصحفى للحلقات حتى ظهر عدد يزينه عنوان على الغلاف: نزار قبانى يبحث عن زوجة!! وكان غضبك زلزالاً مدمراً وجارفاً. استقبلت تليفونك الثائر الجريح واستطعت أن أميز كلماتك وأنت تقول: يا مفيد، بعد بلقيس الراوى الشهيدة أبحث عن زوجة؟! يا مفيد، هل باستطاعتى العثور على نخلة عربية فى قامة بلقيس؟! يا مفيد: أتذكر يوم اجتمعنا فى رحلة أنت وآمال العمدة وبشير الداعوق وأنا وبلقيس الراوى، كيف تصورت أنى بعد كتاب الحب الفصيح بلقيس أبحث عن زوجة؟ لقد جعلتنى أتمتم لبلقيس فى قبرها معتذراً لها عن إساءة لقيمتها عندى. يا مفيد.. ذبحتنى بهذا العنوان.
يا عزيزى نزار، إن أى مجلة أو صحيفة مطبوعة تتسابق لجذب القارئ. أنا لم أكتب هذا العنوان ولا عماد الدين أديب. كلانا يعرف مكانة بلقيس الراوى فى قلبك الكبير. إنها السكرتارية الصحفية لـ«كل الناس» التقطت شطرة من بيت تقول فيه «أبحث عن امرأة»، فما كان من المشرف الفنى سوى أن التقطها وجعلها ذلك العنوان المثير. وهذه بعض من مهنية الصحافة الجاذبة للقراء. أنا برىء من الفعل لأنى أعرف عن يقين أن بلقيس كانت آخر الملكات المتوجات على عرش قلبك ومحال أن تبحث عن زوجة ودموعك لم تجف على رحيل بلقيس المفاجئ. اغفر لى خطأ آخرين وأنا مازلت مقيداً على دفتر أصدقائك الدائمين. اغفر لهم!
* إلى اليوم العالمى للغة العربية
لا أستطيع أن أميز تنكيس رايات الأقلام، أهو إضراب أم حداد؟!
نقلا عن المصرى اليوم