ما بين التقوى والعدالة الاجتماعية
مقالات مختارة | بقلم : الأنبا موسى
١٤:
٠٩
م +02:00 EET
الأحد ١٠ فبراير ٢٠١٩
كما ذكرنا أن القرن الـ21 يحفل بثنائيات هامة، يجب أن ننتبه إليها، ونتعامل معها بتوازن، وذكرنا منها: 1- التراث والمعاصرة 2- المادة والروح 3- الآلة والإنسان 4- الزمن والأبدية ونستكمل موضوعنا عن التوازنات التى يجب مراعاتها فى الثنائيات الأخرى لهذا القرن الجديد.
5- التوازن بين التقوى والعدالة الاجتماعية
يتحدث العالم الآن عن العدالة الاجتماعية، حتى قيل إن القرن الجديد سيكون «قرن حقوق الإنسان»، وهذا شىء طيب.. ومنظمات حقوق الإنسان انتشرت فى كل مكان، تراقب وتحاسب وتطالب، وتكشف نواحى الظلم والقمع والتمييز: سواء الدينى أو الثقافى أو العرقى.. وترفض أن يكون هناك سجناء رأى، وتفتش عمن يعيشون تحت خط الفقر، أو عن المجاعات أو الأوبئة، أو الهجرة الجماعية نتيجة الحروب أو المظالم.. أو عن أطفال الشوارع، وعمالة الأطفال، أو العنف ضد المرأة، إلى غير ذلك من أمور هامة فعلاً.. ولا شك أنها جهود مفرحة ترضى إلهنا المحب.
لكن الخطر يكمن عند الاكتفاء بالعدالة الاجتماعية، وعدم الالتفات إلى أهمية التقوى، التى «بدونها لن يرى أحد الرب» كما يقول الكتاب المقدس: «اِتْبعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ (التقوى) الَّتِى بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ» (عب12: 14)..
إن التقوى أصبحت عملة صعبة فى هذه الأيام، والحديث عنها أصبح حديث الأمانى والأحلام، بينما الحقيقة أن التقوى هى الضمان الحقيقى لسعادة الإنسان.
فحياة التقوى مهمة للإنسان:
1- زمنيًا: أى حاليًا فى هذا الزمان، الذى انتشرت فيه بعض السلبيات والمخدرات والدنس والأمراض المنقولة جنسيًا.. إلخ.
2- وأبديًا: حيث ما نزرعه هنا على الأرض، نحصده هناك عند الله.
3- وبدنيًا: يصح الإنسان بدنيًا حين يبعد عن: التدخين والخمور والمخدرات والنجاسة.. إلخ.
4- وروحيًا: فالروح التى تتصل بالإلهيات، تجوع بسبب عدم تغذيتها بالصلوات والكتب المقدسة والاجتماعات الدينية.
5- وشخصيًا: حيث هناك فرق بين حياة إنسان متدين وآخر غير متدين.
6- وأسريًا: وبين الأسرة فرق بين هذا وذاك.
7- واجتماعيًا: حيث يتمتع الإنسان بعلاقات اجتماعية ناجحة.
إنه لخطر كبير: ضعف الأخلاق، والفساد الوظيفى، وقبول الرشاوى، والانفلات الجنسى، والبلطجة، والتحايل على القانون.. هذا كله خطر على الفرد، والأسرة، والمجتمع.. بينما تربية ضمير حى يقظ، وإنسان تقى، يراعى الله فى كل تصرفاته وعلاقاته وطموحاته، هو أمر هام للغاية، سواء فى المصير الزمنى أو الأبدى.. هناك حيث ملكوت الله تعالى.
إن حياة التقوى هى:
1- مكسب للروح: حين تشبع بالتدين.. فالله غير المحدود يشبع جوع الإنسان الداخلى.
2- ومكسب للذهن: حين تستنير الروح الإنسانية بنوره الإلهى، الذى يريحه، ويقوده ويوجهه.
3- ومكسب للنفس: حينما تنضبط غرائزها، بالاجتهاد الدينى والنعمة الإلهية، فتصير تحت سيطرة الروح والعقل والضمير والتوجهات الروحية..
4- ومكسب للبدن: حينما يبتعد عن: التدخين والخمور والمخدرات والنجاسة بأمراضها الخطيرة..
5- ومكسب للعلاقات الإنسانية: حينما ننجح بالمحبة نكسب الأصدقاء فى كل مجال..
بينما النجاسة تدمير شامل للإنسان، بكل مكوناته!! لذلك فهناك توازن مطلوب، بين خدمة الجسد والزمن والمادة، من خلال حقوق الإنسان فى الغذاء والكساء والسكن، والعدالة الاجتماعية، وبين خدمة الروح الإنسانية المتجهة نحو الخلود والأبدية، من خلال التدين السليم!
6- التوازن بين التفرد والمرجعية
معروف أن هناك احتياجات نفسية داخل الطبيعة البشرية، لابد من إشباعها، كالحاجة إلى الحب، والأمن، والانتماء، والتقدير، والنجاح، وتحقيق الذات..
ومن بين هذه الحاجات: الحاجة إلى التفرد، والحاجة إلى المرجعية. وهاتان الحاجتان تتكاملان!
ومن الخطر الوقوف عند إحداهما وإهمال الأخرى! فالحاجة إلى التفرد.. تعنى حاجة كل إنسان إلى أن تكون له خصوصيته الدينية وإسهاماته العامة، ودوره المتميز فى الجماعة التى ينتمى إليها والإنسان دائمًا يرفض - بطبيعته- أن يكون مجرد ترس فى آلة، أو قطعة غيار فى ماكينة!! فهو كائن متكامل، له تكوينه، واحتياجاته، وإمكانياته، ودوره، وطموحاته.
الإنسان كائن حىّ، مريد، عاقل، له مواهبه وتفرده وجوهره الخاص. وينبغى أن يعطيه المجتمع: الأسرى أو الدينى أو العام، فرصة إظهار مواهبه وطاقاته الكامنة وخصوصيته المتميزة. لكن دون تعارض مع دوره الأسرى والمجتمعى والوطنى.
ولعل هذا هو الفرق الجوهرى بين الأنظمة الشمولية (كالشيوعية والاشتراكية) من جهة، والأنظمة الديمقراطية من جهة أخرى، فبينما النظام الشمولى يقمع الإنسان لصالح الجماعة، فيصير مجرد ترس فى آلة الإنتاج الضخمة، جاءت الرأسمالية تنمى الحافز الفردى الأدبى والفكرى والدينى والاقتصادى والإبداعى والإنتاجى، مما أبرز الكثير من المواهب، وفجرَّ العديد من الطاقات.. لكن الخطورة تكمن فى استعباد الإنسان نفسه للذات أو المادة أو العقل الإنسانى! أو تسلط وهيمنته على الخصوصية والتخصصات التى لكل شخص على حدة.
إن التوازن المطلوب الآن هو بين أن نعطى الفرد فرصة الإبداع، على أن تكون له مرجعية، حتى لا يحدث شطط.. فالفرد جزء من مجموع! والإنسان المؤمن هو عضو فى جماعة كبيرة، ولا يستطيع أن يكون فردًا مستقلاً بذاته، بل هو عضو يتكامل مع باقى الأعضاء من خلال الجسد الواحد، ولا حياة له خارج هذا الجسد.
وهذا ما نسميه «المرجعية» أى مرجعيات تعاونه وترشده بمعنى أنه: يدرس الكتب المقدسة والمراجع الدينية، مع الاستعانة بكبار متخصصين قادرين على معاونته فى ذلك.
إنه توازن مطلوب، لا يصح أن يختل، بين الفرد والجماعة، وبين العضو الواحد والجسد كله، وبين التخصص فى أمر ما، والمرجعية أى أن تكون للإنسان مراجعه الدينية والإنسانية التى يرجع إليها فى أمور حياته اليومية.
* أسقف الشباب
بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية
نقلا عن المصرى اليوم