المركز الكاثوليكى المصرى.. صخرةُ الفنون الرفيعة
مقالات مختارة | فاطمة ناعوت
الاثنين ١١ فبراير ٢٠١٩
فى ذلك الحفل الأنيق، ذكّرنا المطرانُ «عادل زكى» والأبُ «كمال لبيب» بمقولة جميلة عن الفنون الرفيعة، قالها «البابا يوحنا بولس الثانى»، بابا الفاتيكان السابق: «إنها هِباتٌ من الله، وجسورٌ بين العائلة البشرية، لتكون لغةً ناطقةً بين المجتمع الإنسانى كافة». وهذا حقٌّ. فما قد تُفسده السياساتُ والمصالحُ والحروبُ والطائفياتُ، يعودُ الفنُّ ليُصلحَه ويرأبَ صدوعَه ويُقاربَ بين البشر بلغة مشتركة. فالفنُّ الجميلُ لغةٌ عالمية يعرف أبجدياتِها كلُّ البشر على اختلاف أعراقهم وألسنهم ومذاهبهم. وهذا ما يفعله «المركزُ الكاثوليكى المصرى» منذ نشأته عام ١٩٤٩ وحتى اليوم. وفى كل عام، يؤكدُ المركزُ احترام قيمة الفن وتقدير الفنانين فى مهرجان السينما الذى يرعاه المركزُ بكل حِرفية وجِدية وأناقة منذ عام ١٩٥٢ وحتى اليوم فى دورته السابعة والستين، التى شهدنا حفل افتتاحها الجمعة الماضى بمسرح قاعة النيل للآباء الفرنسيسكان بشارع محمد فريد بالقاهرة.
«المركز الكاثوليكى للسينما»، هو إحدى قلاع التنوير، وحصنٌ من حصون القوى الناعمة فى مصر. يحمل مِشعلَه راهبٌ فنانٌ هو «الأب بطرس دانيال»، بعدما تسلّم ذلك المشعل دائم الإضاءة من الأب الراحل يوسف مظلوم. كلاهما رجلُ دين مثقفٌ ومستنير، يعشقان مصرَ ويعشقان الفن. فأما الراحلُ الأب مظلوم، فكان نابغة فى الأدب العربى تتلمذ على يد عميد الأدب العربى طه حسين، والأديبة سهير القلماوى، وكان من أشهر طلاب كلية الآداب، يُسميه زملاؤه وأساتذته «أبونا الطالب»، إذ كان يحضر دروس الماجستير فى الأدب العربى بالزى الكهنوتى. ومثلما كان مبدعًا فى اللغة وأسرارها، كان مُغرمًا بالسينما والتصوير الفوتوغرافى. وأما الراهبُ الأب بطرس دانيال، فلا تفيه حقَّه مقالاتٌ وكتبٌ لقاءَ ما قدّم للمجتمع المصرى فى مجال الفنون والإنسانيات والوطنية، بما يضيقُ عنه مقالٌ مثل هذا. فلا يقتصرُ دورُ هذا الأب النبيل على رعاية الفنون الجميلة وتكريم قامات السينما والمسرح والأدب، بل يتجلّى دورُه الأنبلُ فى تذكُّر ورعاية كلّ مَن نسيهم الناسُ، والدولةُ، من الفنانين المنسيين الذين أقعدهم المرضُ أو العوزُ المادىّ وغيَّبهم انحسارُ الأضواء عنهم، بعدما قدّموا لمصر أعمالا جليلة، تُعدُّ صخورًا خالدة فى هرم مصرَ الناعم، الذى تُباهى به مصرُ الدنيا فى الفكر والفن والثقافة. هذا الأبُ الطيب ستجده فى كلّ يوم يحمل باقة زهور ودرع تكريم فى مستشفى أو فى بيت، يزور فنانًا مريضًا أو أديبًا منسيًّا جار الزمانُ عليه، أو جنديًّا مُصابًا، أو أسرة شهيد. هذا الرجلُ المؤمن يعلم جيدًّا أن عيادة المريض والبرّ بالمُهمّشين لونٌ نبيلٌ من الصلاة لله. لأن مَن يحبُّ اللهَ يُحبُّ خلقَ الله. ذلك الراهبُ الكريم تعوّدَ أن يجمعنا، نحن المسلمين، كلَّ عام فى شهر رمضان على مائدة «إفطار المحبة»، ليقدّم لنا بنفسه التمرَ وفانوس رمضان المُضاء بشمعة النور والحُبّ، فنتذكر أن ما يجمعُنا أكثرُ مما يُفرّقنا.
وفى حفل الكريسماس كل عام، تراه يجلس إلى البيانو ويعزف، كما شوبان. فتنكسرُ الصورةُ الذهنية النمطية لرجل الدين المتجهّم المُعادى للحياة. فكلما اقترب الإنسانُ من الله، ازداد حبًّا للحياة واحترامًا للجمال والفن؛ لأن اللهَ واهبُ الحياة والجمال. ولا يكتفى بهذا، بل يقوم، منذ سنوات بعيدة، بتدريب النشء من الموهوبين على العزف، وتدرّبهم الفنانةُ ماجدولين ميشيل على الغناء الأوبرالى حتى تكوّن لدينا كورال «سان جوزيف» المصرى العالمى، الذى تنافسُ به مصرُ أرقى كورالات العالم. تعلّم الأبُ دانيال الموسيقى الأوبرالية فى إيطاليا على يد كبار الموسيقيين، ثم عاد إلى وطنه قابضًا على جمرة الموسيقى ليصنع كوادرَ فنية فاتنة، تملأ أرجاء الأرض عزفًا وغناءً فى سماوات أوروبا وأمريكا، حاملين اسم مصر العزيز عاليًا فوق هاماتهم. ورغم أنه درس الفلسفة والعلوم اللاهوتية، ثم الإعلام من جامعة ساليزيان الإيطالية، إلا أن شغفه بالموسيقى والسينما جعله راعى الفن الرفيع فى مصر. قدّم دروع التكريم لمن أغلفهم تكريمُ المؤسسات الفنية، مثل: إنعام سالوسة، محمد أبوالحسن، سهير البارونى، فؤاد خليل، المنتصر بالله، نادية رشاد، تهانى راشد، محمود الجندى، أسامة عباس، محمد شرف، محمد الدفرواى، يوسف داوود، مودى الإمام، هشام سليم، طارق التلمسانى، محسن أحمد، ميشيل المصرى، وعشراتٌ غيرهم من القامات الفنية، أغفلتهم المؤسسةُ الفنية، وتذكّرهم مهرجانُ المركز الكاثوليكى المصرى للسينما، الذى تجرى وقائعه هذا الأسبوع، وينتهى الجمعة القادمة. شكرًا لكل من يحبُّ الوطن، حيث إن «الدينَ لله.. والوطنَ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم