مأساة المفكرة المبدعة في عالم ديني ذكوري
مقالات مختارة | نوال السعداوي
الاثنين ١١ فبراير ٢٠١٩
يوافق اليوم ١١ فبراير مولد المفكرة الأديبة المبدعة مى زيادة، التى ولدت عام ١٨٨٦، وماتت ١٩ أكتوبر ١٩٤١، وهى فى ريعان شبابها وقمة إنتاجها الفكرى الأدبى، ماتت فى مستشفى داخل مصر، مهجورة من أهلها وعائلتها فى لبنان وفلسطين، منسية من أصدقائها وأحبائها فى مصر. لم تختلف مآسى حياتها وموتها عن المفكرات الكاتبات المبدعات فى الشرق والغرب والشمال والجنوب، منذ أن حكم الإله الذكورى يهوه فى كتابه العهد القديم (التوراة) على حواء وجنس النساء كله، بالسقوط والخطيئة، لمجرد أنه خلقهن إناثا وليس ذكورا، وقع الإله يهوه فى التناقض والعنصرية الجنسية دون أن يدرى، فكيف يكون هو الذى خلق الأنثى، ولم تخلق هى نفسها أنثى، ومع ذلك يعاقبها أشد العقاب على ما فعله هو، يلصق بها العار والدونية والعبودية والإثم، ونقصان العقل، ويجعل لزوجها السلطة المطلقة والشرف والعقل والكرامة والنخوة والشهامة، وهى مجرد متاع له، وعاء لأبنائه تحمل وتلد فى الأسى والألم والهوان وهو يسود عليها كما ورد فى التوراة بالحرف، وانتقلت هذه الكلمات من التوراة إلى ما تلاها من كتب دينية بلغات أخرى وتعبيرات مختلفة، لكنها تحمل المعنى نفسه.
كنت أقرأ هذه الكلمات فى حصة التاريخ والدين بالمدرسة الابتدائية الإنجليزية فى بلدة منوف وسط دلتا النيل، مع زميلاتى اليهوديات والمسيحيات والمسلمات، نشعر بالغضب المكبوت فى قلوبنا من التناقض الدينى الواضح لنا نحن الأطفال، والظلم الواقع علينا لمجرد أننا خلقنا إناثا وليس ذكورا.
كنت فى العاشرة من عمرى بالمدرسة الابتدائية حين سمعت أمى تقول ماتت مى زيادة يا نوال، كانت أمى تقرأ عنها أحيانا فى الصحف، وكانت الصحف تهتم بأخبارها الخاصة عن حياتها الشخصية، عن كونها أنثى جميلة متحررة سافرة لا ترتدى الحجاب، تخالط الذكور، تعقد صالونا أدبيا يجتمع فيه الرجال منهم عباس العقاد وغيره ممن يعشقونها.
أغلب الحكايات عنها سلبية لا تذكر الصحف شيئا عن أفكارها وكتاباتها الأدبية وفلسفتها فى الحياة، لكن أمى كانت تقول إنها كاتبة وأديبة عظيمة، يتجاهلها النقاد، لأنها امرأة، ولأنها سافرة وتخالط الرجال ولا تراعى التقاليد التى تخضع لها كل النساء.
لم نقرأ كلمة واحدة عن مى زيادة فى المدرسة الابتدائية ولا الثانوية، ولا بعد ذلك فى الجامعات، حين حصلت على الشهادة الثانوية وتأهبت لدخول الجامعة نصحنى أبى وأمى بدخول كلية الطب لأصبح طبيبة وليس أديبة، قال أبى الأدباء يا ابنتى يدخلون السجون ويموتون فقراء، والأديبات النساء تشوه سمعتهن مثل مى زيادة لا ينلن أى تكريم من أحد، يغدر بهن الوطن والزوج والعائلة والأصدقاء والأحباء والصديقات، يعشن، وحيدات ويمتن وحيدات.
سمعت كلام أمى وأبى ودخلت كلية الطب، وتخرجت طبيبة بتفوق، لكنى كنت أحتفظ بمفكرتى السرية منذ الطفولة أدون فيها أفكارى ومشاعرى، وما إن بدأت أكتب منذ نصف قرن وأكثر، وأعبر عن نفسى بحرية وصدق حتى انهالت على اللعنات ونهشت الإشاعات عظامى، حتى اليوم ١١ فبراير ٢٠١٩، تحتفل وزارة الصحة والسكان ونقابة الأطباء بقانون وبمشاريع محاربة ختان الإناث فى مصر، وحين قمت أنا منذ أكثر من نصف قرن، بالكتابة عن مآسى ومضار الختان الصحية والاجتماعية وطالبت بتجريمه ومنعه، أصدر وزير الصحة حينئذ، عددا من القرارات لإبعادى عن منصبى، وتشريدى، وأصدرت نقابة الأطباء ومشيخة الأزهر بيانات تشوه سمعتى، بأننى جاهلة بالطب والدين بل، كافرة ضد الأخلاق، واستحق العقاب.
تعود إلى هذه الذكريات اليوم ١١ فبراير ٢٠١٩ فى عيد ميلاد الأديبة العظيمة مى زيادة، وأتوقع أن أموت مثلها وحيدة دون تكريم من أحد لكنى لن أكون أبدا حزينة أو نادمة، بل فخورة وسعيدة، فالسعادة تنبع من داخلى وأعماقى، ومن أعمالى الإبداعية والفكرية، وليست من الخارج.
نقلا عن المصرى اليوم