خطوات لتصحيح مجال التواصل الاجتماعى العربى
مقالات مختارة | علي محمد فخرو
الخميس ١٤ فبراير ٢٠١٩
إذا كان الغرب، كما بيَّنا فى مقال الأسبوع الماضى، بدأ يقلق من تنامى الجوانب والممارسات السلبية الكثيرة فى حقل التواصل الاجتماعى والرقمى الالكترونى، ما يهدد بتشوه وتيه نظامه الديمقراطى برمته، وإذا كانت سلطاته تفكر فى وضع ضوابط قانونية لمعالجة تلك السلبيات، وبشرط ألا تكون تلك الضوابط على حساب الحريات الفردية والمدنية، فإن كل ذلك يستوجب طرح السؤال التالى: وماذا عنا نحن فى بلاد العرب؟
فى اعتقادى أننا، قبل الانتقال إلى وضع الضوابط القانونية، وفيها محاذير كثيرة، فإننا سنحتاج قبل الوصول إلى ذلك لأن نحقق خطوات عربية ذاتية بالغة الضرورة:
أولا، مطلوب من مراكز البحوث والدراسات العربية، المعنية بعلوم الاجتماع والسياسة على الأخص، إجراء بحوث ميدانية وإحصائية لمعرفة نوع ومدى انتشار الممارسات السلبية والعدوانية والأفكار اللا عقلانية المتزمتة فى فضاء التواصل الالكترونى فيما بين الجماعات والأفراد العرب. إن تلك الدراسات الأكاديمية الموضوعية، بعيدا عن الانطباعات والظنون، هى وحدها التى يمكن الاعتماد عليها لتشخيص العلل وسوء الاستعمال وانتهازية الاستغلال فى ساحة التواصل الاجتماعى العربى.
فى الغرب اتخذوا هكذا خطوة، ثم بدأوا بوضع الحلول الملائمة لأوجاع واقعهم التواصلى، وهو ما نحتاج أن نفعله نحن إن كنا نريد مواجهة ظاهرة اجتماعية جديدة وخطرة ومعقدة كظاهرة التواصل الالكترونى والرقمى.
ثانيا، وهذا هو الأصعب والأكثر أهمية، هناك حاجة ملحة لأن تنبرى أشكال متعددة، من جماعات الفكر ومؤسسات الثقافة المدنية والمستنيرين غير المتزمتين من علماء الدين، لجعل مواضيع الفلسفات العقلانية المتحاورة، والأيديولوجيات السياسية الديمقراطية الإنسانية التقدمية، والفهم الدينى المتسامح الممجد للعدالة والأخوة البشرية المحبة المتعايشة مع الآخرين، والآداب والفنون الرافعة لسمو الإنسان الأخلاقى والروحى والنفسى، لجعل مثل تلك الثقافة حاضرة بقوة وحيوية فى كل ساحات التواصل الاجتماعى العربى.
المطلوب وجود جماعات مدنية معنية بالدفاع عن الثقافة العربية وتجذير كل منتجاتها القيمية العالية فى نفوس وعقول الشباب وذلك من أجل تحييد الجوانب السلبية فى الثقافات القبلية والمذهبية الفرعية المليئة بالتشوه والانغلاق الفكرى.
لا نعنى بذلك تبنى مقال لهذا المؤلف أو ذاك أو نقل فقرة من هذا الكتاب أو ذاك، وإنما نعنى إدماج الأفكار والقيم والمواقف والشعارات الرمزية الكبرى فى ساحة كل مناقشة أو خلاف أو صراع تفجره جهات العبث والكذب والنفاق لإغواء وتضليل المواطنين والمجتمعات ولتجييش العواطف الطفولية أو الشريرة.
الثقافة هنا يجب أن ترد على كل مغالطة وتتحاور مع كل سوء فهم وتوعى على الأخص شباب وشابات الأمة بشأن ما يطرحه العصر من تبريرات للتغطية على الظلم والاستبداد والفساد ومن محاولات لنشر ثقافة عولمية مادية أنانية استهلاكية مسطحة.
ثالثا، لن يفيد تفعيل دور الثقافة العربية ذاك إلا إذا امتلك الأفراد العرب، وبالأخص النخبة العربية المنخرطة فى الحياة العامة، وسائل الفهم الصحيح والاستعمال الموضوعى المتوازن لثقافة أمتهم وثقافة العصر. هذا موضوع كبير ومعقد لا يمكن تحققه إلا إذا انخرطت العائلة والمدرسة والجامعة وشتى المؤسسات الثقافية والإعلامية فى بناء مكوناته ووسائله.
***
هناك حاجة لتعويد الإنسان العربى، منذ طفولته المبكرة، لاستعمال المنهجيات العقلانية القائمة على الشك المعقول ولطرح الأسئلة الصحيحة، وممارسة ملكة التحليل والنقد والاستقلال الذهنى والاقتناع التام بأهمية المراجعة التامة والتجاوز والإبداع بالنسبة لكل جانب من جوانب الحياة، وبدون أى استثناء.
إن ذلك سيعنى التمييز بين البيانات والمعلومات والمعرفة، مقدار موضوعية وصدقية وعلمية وفائدة كل منهم والمرجعيات التى يستند إليها.
إن ذلك سيعنى التفريق بين الدعاية والإعلان وخلط الأوراق والتلاعب بالألفاظ وبين الواقع الفعلى.
إن ذلك سيعنى معرفة نواقص الإحصائيات والحذر الدائم من ادعاءات بعض العلوم، وعلى الأخص الاقتصادية والاجتماعية، بالنقاء العلمى.
إن ذلك سيعنى القدرة والشجاعة على تجنُب التبنى للمتخلف والأسطورى فى الثقافة العربية والعالمية وعلى التمسك بعناد بالجوانب الإنسانية والقيمية العادلة فى الثقافات.
إن ذلك سيعنى عدم الشعور بالدونية أمام أى ثقافة أو حضارة تدعى لنفسها المركزية والتفوق وحق الهيمنة على ثقافات وحضارات الآخرين.
إن ذلك سيعنى التفريق بين الغوغائية والديماغوجية وبين الصوت العالى النضالى المواجه للظلم وامتهان وتسخير ذوى الحاجة والفقراء والمهمشين.
يستطيع الإنسان أن يدرك أهمية ما ندعو إليه من مقدار حجم المحتوى الرقمى والتواصلى فى فضاءات التواصل العربى فيما بين عامى 1995 و2012 فالنصوص بلغت نحو 112 مليون نص، ومن المؤكد أنها زادت بكميات هائلة بعد تفجر الحراكات الثورية العربية منذ 8 سنوات وبعد إدخالها من قبل أعداء الأمة فى المتاهات والصراعات والجنون.
موضوع التواصل الاجتماعى والرقمى مرشح لاكتساح العالم، ومنها الوطن العربى. ولذا أصبح فهم تلك القفزة المركبة واستعمال أدواتها استعمالا صحيحا وضبط مسارها، لإبعادها عن الشطط والاستغلال النفعى الانتهازى، ضرورة قومية عروبية، فهى أولا وأخيرا تعتمد على اللغة العربية والتراث العربى والثقافة العربية، وبالتالى فهى مشكلة عروبية قومية بامتياز.
نقلا عن الشروق