خريف المنطق
مقالات مختارة | أحمد المسلمانى
الجمعة ١٥ فبراير ٢٠١٩
يتصور الناس أن هناك حكمة خفيّة فى السياسات العالمية الكبرى.. وأنه لا مكان للخطأ أو العبث. كلّ الخطوات مدروسة.. كلّ السيناريوهات منضبطة.. كلّ مقدمة تقود إلى نتيجة، وكل قرار يؤدى إلى غاية.
لا أعتقد أن الأمور تسير حقًا على هذا النحو الهندسى الحاسم. ذلك أن بعض القرارات بلا منطق، وبعض السياسات بلا دراسة.. وكثيرٌ من التحليلات والنظريات تخترع الحكمة اختراعًا حتى توجد لها مكان.
يأتى هذا الحديث بمناسبة.. نهاية الحرب الأمريكية فى أفغانستان بعد 18 عامًا. بدأت الحرب عام 2001 ضدّ نظام طالبان وانتهت الحرب عام 2019 بعودة طالبان. فى عام 2001.. طالبان حركة إرهابية كبرى.. وفى عام 2019.. طالبان قوة سياسية تشارك فى صُنع السلام.
فيم كانت الحرب إذن؟ وفيم كانت الأموال والدماء؟ وفيم كانت الخطب والتصريحات؟
إن تأمُّل ما جرى فى تلك الحرب - وهى الأطول فى تاريخ أمريكا - يذهب بنا إلى أن المنطق بات يواجه تحديات ضخمة.. وأن اللامنطق يجد كل يومٍ مكانًا أكثر اتساعًا. يقول الرئيس دونالد ترامب: إننا ننفق «50» مليار دولار فى حرب أفغانستان كل عام. والآن نتفاوض معهم للعودة إلى ما قبل 18 عامًا.
قدرّت وزارة الدفاع الأمريكية تكاليف الحرب فى أفغانستان عام 2018 بنحو «45» مليار دولار.. وقدرّها الرئيس ترامب بنحو «50» مليار دولار.. وإذا ما تم تقدير إجمالى تكلفة الحرب مع ثبات الرقم السنوى الذى أعلنه الرئيس ترامب.. تكون الحرب فى أفغانستان قد تكلفت نحو «900» مليار دولار.. وهو رقم قريب من تقدير مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن.
لكن مراكز دراسات أخرى ترتفع بالرقم قليلًا ليزيد على التريليون دولار. أما جامعة براون الأمريكية فإنها تصل بالرقم إلى قرابة الضعف. وينقل موقع هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى» عن نيتا كراوفورد منسقة مشروع تكلفة الحروب فى جامعة براون الأمريكية تقدير فريق المشروع لتكلفة الحرب على أفغانستان بأكثر من «2» تريليون دولار. وأمّا تكلفة الحروب الأمريكية فى أفغانستان وباكستان والعراق منذ 2001 فهى تزيد على الخمسة تريليونات دولار!
لا تشمل هذه الأرقام التكاليف المستقبليّة لرعاية قدامى المحاربين. وتقدِّر ليندا بلايم من جامعة هارفارد نفقات الخدمات الطبية للمحاربين فى هذه الحروب خلال الأربعين سنة القادمة بأكثر من تريليون دولار.
لقد تجاوزت نفقات حرب أفغانستان نفقات حرب فيتنام.. إن حرب أفغانستان بتقدير عدد كبير من الباحثين.. هى ثانى أعلى الحروب تكلفةً فى التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية. وقد توصّل عالم الاقتصاد جوزيف ستيجلز الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد.. فى دراسته الشهيرة مع جامعة هارفارد.. إلى أن حرب العراق وحدها تجاوزت الأربعة تريليونات دولار من دون النفقات الطبية المستقبلية. أمّا الرئيس دونالد ترامب فإنَّهُ يقدّر تكاليف الحرب فى العراق بأكثر من ستّة تريليونات دولار. إذا ما اعتمدنا رقم الرئيس ترامب فى حرب العراق، ورقم «جامعة براون» فى حرب أفغانستان.. تصل تكلفة الحربيْن إذن إلى أكثر من «8» تريليونات دولار!
قال لى وزير الإعلام العراقى الأشهر «محمد سعيد الصحاف» حين التقيته فى أبوظبى قبل سنوات: لقد عرضنا على أمريكا أن تأخذ النفط بسعر عشرة دولارات للبرميل ولكن بوش الابن رفض.. وأصّر على الحرب وإسقاط نظام صدام حسين. وفى تقديرى لو أن أمريكا كانت قد عقدت هذه الصفقة لوفرّت تريليونات الحرب ومعها تريليونات النفط.. لكنها لم تفعل.
إن الدماء التى سالتْ فى هذه الحروب هى أعلى تكلفة بكثير من كل هذه التريليونات.. ففى حرب أفغانستان خسر الجانب الأمريكى أكثر من «2000» قتيل و«20» ألف مصاب.. وخسر الجانب الأفغانى أكثر من مائة ألف قتيل. تتحدّث مراكز الدراسات الاجتماعية الأمريكية عن خسائر نفسيّة هائلة فى صفوف الأمريكيين.. حيث يعانى ثلث مليون من الجنود السابقين ممن خدموا فى حربى أفغانستان والعراق من إصابات فى الرأس.. أدت إلى اضطرابات ذهنيّة. وحسب «بى بى سى» فإن تقريرات المركز الوطنى للجنود المتقاعدين فى الولايات المتحدة مروّعة للغاية.. حيث يُقدِم على الانتحار «20» جنديا متقاعدا كل يوم!
يتفهم كثير من الأمريكيين قول الرئيس ترامب لقد تسلمتُ فوضى عارمة.. حروب لا نهاية لها.. مع قتلى وإنفاق غير محدود. إن السؤال الذى يطرح نفسه الآن.. أين المنطق فى كلِّ ما جرى؟ أين مصلحة واشنطن فى إنفاق التريليونات وتشييع القتلى؟
يتحدث كثيرون عن «لا أخلاقية الحرب».. وعن الدول التى تهدّمت، والدماء التى أريقت.. عن أم القنابل والطائرات بدون طيار. لكن الرد الطبيعى على ذلك هو أن الحرب بطبيعتها فكرة لا أخلاقية.. وأنّه مادامت تتحقق أهداف المنتصر.. فإن الحديث عن أخلاقية الحرب لن يتجاوز هوامش التاريخ.
لكن المعضلة هنا ليست كذلك.. المعضلة هى لا منطقية الحرب.. بغضِّ النظر عن لا أخلاقية الحرب. إنها دماء فى الهواء.. حروب عبثية تنتهى من حيث بدأت. بعد سنوات طويلة من المال والدم.. عادت طالبان إلى ما كانت عليه قبل الحرب. لا هدف إذن ولا غاية. لا منطق فى حرب الثمانية عشر عامًا.. ولا رؤية. سيقول البعض كان الهدف تدمير أفغانستان.. هذا صحيح، ولكنها كانت متهدّمة أصلًا. إذن فقد كان الهدف إسقاط النظام.. لكن النظام قد عاد من جديد.. وجرى الاعتراف به والتفاوض معه. إنّ ما لم يفكر فيه أحد.. أو لا يجرؤ على التفكير فيه.. هى أنها قد تكون مؤامرة على أمريكا بمثل ما أنّها مؤامرة على أفغانستان.. إنهاك أمريكا عبْر تدمير أفغانستان. لقد تجرأ الرئيس ترامب وقام بترجيح هذا الاحتمال..
إن صعود اللامنطق فى العلاقات الدولية.. هو أكبر مصدر لتهديد السلام العالمي. سيحاول البعض اختلاق الحكمة بأثر رجعى وادعاء عبقرية زائفة.. لكن ذلك كله لا يمكن أن ينفى ذلك الصعود الكبير .. للدور السياسى للغباء.
نقلا عن الأهرام