جديد الموقع
المسيحيون العرب والثورات الشعبية.. هواجس مشروعة
من ضيعة حملايا التى تغنت بها فيروز فى أنشودتها الرائعة «على هدير البوسطة»، خرج بشارة بطرس الراعى أو البطريرك السابع والسبعون للموارنة اللبنانيين. قَدَرُ الرجل أن يعود إلى موطنه مسلحا بشهادة الدكتوراه من فرنسا فى عام 1975، وهو العام الذى اندلعت فيه حرب دامت خمسة عشر عاما لم يكسب فيها أحد. وقَدرُ الرجل أيضا أن يصعد إلى بطريركية بكركى فى مارس الماضى أى فى مرحلة تعاد فيها صياغة توازنات القوى الداخلية فى الدول العربية وأيضا تحالفات هذه الدول الخارجية، وتثار فى غمارها المسألة المسيحية فى ظل الثورات العربية.
كان هذا هو السياق الذى حكم تصريحات بشارة الراعى لمحطة (فرنسا 24) أثناء وجوده بالعاصمة الفرنسية لحضور مؤتمر للأساقفة قبل نحو عشرة أيام. فماذا قال ؟ دعا الراعى إلى إمهال الرئيس بشار الأسد مهلة كافية يُجرى فيها الإصلاحات السياسية التى وعد بها، وحذر من أن زيادة الضغط على النظام السورى الحالى قد تنتهى إلى وصول قوى متشددة للحكم والتأثير سلبا على وضع المسيحيين بل وتوتير علاقة السنة بالشيعة. ولما كان لبنان مرآة عاكسة للتطورات السورية فإن مؤدى هذا إضعاف وضع المسيحيين اللبنانيين وزيادة الاحتقان القائم أصلا بين سنة لبنان وشيعته.
منذ أدلى البطريرك المارونى بما قال وجدل صاخب يحتدم بين القوى السياسية اللبنانية، فقوى الثامن من آذار رحبت بتصريحات الراعى ووصفتها بالاتزان والوطنية والحرص على مصالح المسيحيين العرب الذين باتوا بين خيارين هما الهجرة للخارج أو الخضوع لأحكام الذمة. وقوى الرابع عشر من آذار استنكرت النَفَس الطائفى فى تصريحات الراعى خصوصا وقد نسبت للرجل إشارته لمخاطر وصول الإخوان المسلمين للحكم فى سوريا واحتمال تنسيقهم مع أهل السنة فى لبنان. والمشهد برمته يعكس ما تفعله المصالح بمواقف أهل السياسية حتى لتنقلها من نقيض إلى نقيض أو تطبعها باللامعقولية. وهكذا نجد العماد ميشيل عون الذى كان خروجه من لبنان على يد الرئيس حافظ الأسد يقف فى المعسكر الذى يعتبر النظام السورى واقيا للمسيحيين سواء فى سوريا أو حتى فى لبنان. وإذا بالبطريرك بشارة الراعى الذى يحذر من الترويج للديمقراطية على الطريقة العراقية ينسى أن الصيغة « التوافقية « المبنية على المحاصصة الطائفية نشأت أول ما نشأت فى لبنان من خلال الميثاق الوطنى عام 1945. وإذا بالسفير السورى فى لبنان على عبدالكريم لا يفوته بعد إطراء موقف البطريرك اللبنانى التنويه بأن هذا هو موقف الفاتيكان نفسه وكأنه يُشكك بذلك فى نوايا الرجل بدلا من أن يدعمه نظرا لكثرة معارك بابا الفاتيكان مع المسلمين.
لو تركنا جانبا التجاذبات الداخلية اللبنانية بين قوى الثامن وقوى الرابع عشر من آذار، وهى التجاذبات التى ُوظف فيها الموقف مما يحدث فى سوريا لخدمة أغراض سياسية. أقول لو تركنا هذا جانبا وتأملنا ما وراء الصورة سنجد أن هناك سندا حقيقيا لمخاوف المسيحيين العرب من مستقبل الثورات العربية. هذه المخاوف لم تٌطرح فى تونس بجدية رغم استيلاء سلفيين على كنيسة لتحويلها لمسجد فى الكاف، ولم تثر فى ليبيا أو اليمن حيث تتدنى نسبة الوجود المسيحى فى تلك البلدان كافة، لكنها يمكن أن تُطرح فى سوريا التى تتشكل من موزاييك بشرى كما أنها تُطرح بالتأكيد فى مصر حيث يمثل المسيحيون نسبة تتراوح بين 8 و12 % من إجمالى السكان.
بعد أن انتهت الشراكة الميدانية بين مسلمى مصر ومسيحييها، بدأنا نسمع تغيرا فى مفردات الخطاب السائد بتَعمُد كثير من ممثلى التيار الإسلامى استخدام لفظ « النصارى» للدلالة على المسيحيين بحجة أن لفظ المسيحيين محمل بإيحاءات دينية غير مقبولة. الأخطر من تغير الخطاب رغم أهميته، هو التغير فى محتوى حقوق المواطنة بالنسبة لغير المسلمين. ويمكن القول إن مواقف القوى الإسلامية تراوحت بهذا الخصوص ما بين « تعويم « رأيها كما حدث مع الإخوان المسلمين الذين لم يشيروا فيما نُشر باقتضاب عن برنامجهم السياسى إلى موقفهم من رئاسة المرأة والأقباط للدولة تجنبا للضجة التى أحدثها رفضهم تلك الرئاسة فى برنامج 2007. وبين الرفض الصريح لتولى المسيحيين قيادة الدولة كما ورد فى عديد من تصريحات ممثلى التيار السلفى. وبين القبول بمبدأ ترشح المسيحيين والنساء لمختلف مناصب الدولة وهو الموقف الذى ثبت عليه حزب الوسط. وعندما اندلعت أزمة محافظ قنا فوجئنا بأن سقف حقوق المواطنة قد انخفض، وسمعنا مجادلة فى أحقية المسيحى فى شغل منصب محافظ.
يُلاحظ على ما سبق أننى لم أتطرق إلى حوادث الفتنة الطائفية التى كانت تتعلق بعنف متبادل بين المسلمين والمسيحيين بسبب قضية بناء الكنائس، أو الزواج المختلط، أو تعاملات الحياة اليومية. لم أتطرق لها لأنها تعبر عن تجاوزات من قوى طرفية على الجانبين وكانت موضع إدانة من القوى السياسية إسلامية ومسيحية. لكنى توقفت أمام مواقف الأطراف التى تمارس العمل السياسى والتى يمكن أن تصل إلى مراكز صنع القرار، وعند هذا الحد نصبح أمام مبرر حقيقى للقلق على مستقبل الوجود المسيحى فى مصر.
وبينما لهذا القلق ما يبرره فإن الملاحظ هو اتجاه المسيحيين المصريين مجددا للانعزال بعد أن كانوا قد شاركوا بقوة فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ولعب بعضهم دورا أساسيا فى تكوين أحزاب سياسية أو تمويلها. لكنهم بالتدريج أخذوا فى البعد عن المجال العام إلى الحد الذى قيل معه إن أكثر من شخصية مسيحية رفضت تولى منصب محافظ فى حركة التعيينات الأخيرة. ومثل هذا الاختفاء للمسيحيين كقوة سياسية من المشهد الحالى هو أمر بالغ السلبية على مسار التطور الديمقراطى وعلى العبور الآمن للمرحلة الانتقالية. فهم مدعوون للمساهمة بقوة فى تشكيل مؤسسات النظام السياسى للثورة لأن هذا وحده هو الإطار الذى يحفظ لهم ولغيرهم حقوق المواطنة. أما إن هم غابوا عن الساحة فلن يجدوا إلا نص الشعار الفضفاض: « سيتمتع المسيحيون بحقوقهم كاملة فى ظل تطبيق الشريعة «، أما أى حقوق وأى شريعة فتلك قصة أخرى.
أتفهم تماما أن لحظة المخاض الحالية هى لحظة شديدة الالتباس بالنسبة لكل المسيحيين العرب خاصة مع اختلاط الأوراق الإقليمية كما فى المناداة بالخلافة الإسلامية، ومع خبث الأدوات الدولية كما فى فتح مدينة طرابلس الليبية بتعاون بين قوات حلف الأطلسى والقائد الإسلامى عبدالحكيم بلحاج. وفى مصر يزيد هذا الالتباس على ضوء غموض مستقبل القيادة الكنسية بسبب الظروف الصحية للبابا. أتفهم إذن صعوبة الموقف لكنى أثق كذلك فى أن تجاوزه لن يكون بدعم النظم المستبدة كما فعل بطريرك الموارنة فى لبنان ولا بالانكفاء على الذات كما يفعل المسيحيون المصريون.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :