صفحات من تاريخ مصر
مقالات مختارة | عبد المنعم سعيد
الثلاثاء ٢٦ فبراير ٢٠١٩
عبد المنعم سعيد
صدور المذكرات من قبل هؤلاء الذين كانوا فى موقع المسؤولية ساعة اتخاذ قرارات كبرى فى السياسة المصرية- يمثل إضافة للوعى والفكر المصرى. ومن ناحية فإنه يقول لنا ما حدث، خاصة أن القرارات الكبرى فى مصر لا تأتى بعدها مناقشات أو حوارات عامة، ونادرا ما تحدث لجان تحقيق لمتابعة مردود ونتائج هذه القرارات. ومن ناحية أخرى فإنها تلقى ضوءً على دروس مفيدة لما سوف يأتى من قرارات. ولذلك فإن صدور كتاب الأستاذ عبده مباشر عن مذكرات الفريق أول محمد أحمد صادق بعنوان «سنوات فى قلب الصراع» هو بالتأكيد إضافة للمكتبة الوطنية الخاصة بمرحلة من أهم المراحل فى التاريخ المصرى التى لا تزال آثارها باقية معنا حتى الآن. ورغم أن المذكرات تبدأ بفصل عن التاريخ العسكرى للفريق أول، وخدمته مستشارا عسكريا فى ألمانيا، فالقيمة الحقيقية لها تبدأ مع توليه منصب رئيس المخابرات الحربية، فى خريف عام ١٩٦٦، ومنها إلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة فى سبتمبر ١٩٦٩، ثم وزيرًا للدفاع فى مايو ١٩٧٢، حيث شهد ثلاثة أحداث مهمة: حرب يونيو ١٩٦٧، وحرب الاستنزاف ١٩٦٧-١٩٧٠، واتخاذ قرار الحرب فى عام ١٩٧٣. هذه الأحداث «التاريخية» بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ كتب فيها الكثير من المذكرات، والأكثر منها كتب، ومقالات ودراسات سنوية، وسواء فى مصر أو دول العالم المهتمة أيضا؛ ومع ذلك فإن كل ما كتب ظلت الوثائق المصرية فيه نادرة. وفى الحقيقة فإنه ورغم مرور أكثر من نصف قرن على حرب يونيو فإن وثائقها غير متاحة، وبعد خمسة وأربعين عاما على حرب أكتوبر، فإن هناك إشارات على وجود وثائق، ولكن لا أحد يعرف إلى أين انتهى بها الأمر، ولا يعلم أحد ما إذا كانت هذه الوثائق موجودة فى وقت ما أو لا؛ وما أشيع عن أن الأستاذ محمد حسنين هيكل كان لديه نسخة من كل الوثائق، فإن ما نشره منها كان انتقائيا، وما لم ينشره احترق بعد الهجوم الغادر على منزله.
لذلك، فإن نشر المذكرات الخاصة بقيادة عسكرية مهمة كانت فى قلب الأحداث يعطى المزيد من المعلومات، ويعطى الفرصة لمزيد من المراجعة والمقارنة والتمحيص لوقائع وحقائق. ويوم الأحد الماضى، أشرت إلى المذكرات من زاوية «المفاجأة الاستراتيجية» التى وقعت علينا فى يونيو، وفى هذا العرض سوف ألفت النظر إلى ثلاثة أمور: حرب الاستنزاف، وقرار حرب أكتوبر، وعبقرية الرئيس السادات. وبالتأكيد فإن هناك أمورا أخرى تستحق العرض فهناك الدور الحاذق الوطنى الذى لعبه الفريق صادق ذاته خلال توليه مناصبه؛ ولكن هناك أيضا موقفه من القيادات السياسية (عبدالناصر أو عامر أو السادات أو القيادات العسكرية) التى كان عليه العمل معها. لكن هذه الأمور الأخيرة تقع فى فصل آخر من العرض لأن فيه منافسات شخصية، وسياسة تتحول فيها المنافسة إلى مواقف عامة لها علاقة بالمصالح الوطنية.
«حرب الاستنزاف» وبكل المقاييس كانت صفحة مشرفة لمصر لأنها بدأت منذ بات واضحا وقوع الهزيمة وأن القوات المسلحة المصرية بسبيلها إلى التراجع إلى غرب قناة السويس حيث بدأت المخابرات الحربية فى تكوين المجموعات القتالية لعرقلة تقدم القوات الإسرائيلية وإعطاء الفرصة للجنود المصريين للعودة سالمين؛ ونسف الذخائر المصرية حتى لا يستفيد منها العدو. ورغم أن الشائع هو تأريخ هذه الحرب بمعركة رأس العش التى احتفظت بموقع للقوات المصرية فى سيناء؛ فما دار من معارك قبل وقف إطلاق النار جعل حرب يونيو أشبه بمعركة «دنكرك» البريطانية فى مطلع الحرب العالمية الثانية والتى كانت من ناحية هزيمة لأنها سجلت خروجا من سيناء، ومن ناحية أخرى احتوت على نصر الحفاظ على القوات التى سوف تكون مكونًا أساسيًا فى معركة يوم آخر. ومع هذا الحفاظ كانت حرب الاستنزاف عملية تطعيم واسعة النطاق برزت فيها بشدة «المجموعة ٣٩»، بقيادة العظيم الشهيد إبراهيم الرفاعى التى اعتبارا من عام ١٩٦٨، أصبحت تتم بشكل متواتر فيه اختبار مواقع الطرف الآخر، والتدريب على أسلحة جديدة، وفيها عمليات لتدمير المدمرة إيلات فى أول استخدام عسكرى للصواريخ «سطح- سطح» فى التاريخ، والهجوم على ميناء إيلات نفسه. ولكن حرب الاستنزاف كان فيها أمر آخر، وهو أنها أظهرت رد الفعل الإسرائيلى الذى نقل المعركة إلى أبعاد جديدة فى العمق المصرى كان للمخطط المصرى أن يأخذها فى الحسبان.
واكب وقف إطلاق النار فى حرب الاستنزاف وفاة عبدالناصر بعد فترة قصيرة، وطبقا لما جاء فى المذكرات فإنه حتى ١٥ مايو ١٩٧١ «لم تكن للقوات المسلحة خطة هجومية»؛ وكان السؤال السياسى والاستراتيجى «يدور حول ما إذا كانت مصر سوف تقوم باستئناف حرب الاستنزاف أم لا؟ ولكن مع حركة التصحيح التى أجراها الرئيس السادات، فإن الفكر العسكرى المصرى كان منقسما إلى تصورين يستندان إلى فكرة (الحرب المحدودة) وهى فكرة راسخة فى التفكير الاستراتيجى والعسكرى، تقوم على شن الحرب استنادا إلى الإمكانيات المتاحة، وليس على (تكافؤ القوة) الذى بات مستحيلا فى الحالة المصرية الإسرائيلية. وبات السؤال المطروح: محدودة إلى أى حد؟ واضح من المذكرات أن الفريق أول محمد صادق كان متبنيا العبور كمفاجأة استراتيجية والذهاب حتى خط المضايق، أما الرئيس السادات ومعه رئيس الأركان سعد الدين الشاذلى، فكان التصور متفقا مع المفاجأة والعبور، ولكن الذهاب إلى ما بين عمق ١٠ و١٢كم. انتهى الأمر إلى اتباع ما طرحه الرئيس السادات منذ اليوم الأول لتوليه السلطة بأنه يحتاج سنتيمترات وأحيانا أمتارًا يستطيع معها قيادة معركة سياسية ودبلوماسية لتحرير الأرض المحتلة. وفى الواقع، إن خطة (جرانيت المعدلة) والتى تمثل التصور الأول، وخطة (المآذن العالية) والتى تمثل الثانى جرى تطبيقهما معا، وثبت خطأ الأولى، عندما كان الثمن مرتفعًا لتطوير الهجوم المصرى، اعتبارا من يوم ١٤ أكتوبر.
كان الخلاف أمينا ووطنيا فى الرأى، ولكن صادق طرحها فى مذكراته مستفيدا من معرفة ما حدث بالفعل فجعل من (ثغرة الدفرسوار) نتيجة لعدم الاستماع إلى رأيه.
المذكرات رغم أنها ليست رحيمة فى كل الأحوال بالرئيس السادات، فهى تكشف قدرة السياسى على غزل استخدام عناصر القوة، وكيف كان يتعامل مع الروس والأمريكيين والعرب، ويوظف ذلك كله ليحقق أهدافه فى التحرير من ناحية وإدارة البلاد من ناحية أخرى.
صادق كان له دور تاريخى فى التعامل مع إنقاذ ياسر عرفات، وفى القضاء على انقلاب هاشم العطا فى السودان، وقبل ذلك وبعده فى حرب الاستنزاف والاستعداد لحرب أكتوبر.
رحم الله الفريق أول صادق لما قدمه فى الخدمة الوطنية وما تركه لنا من مذكرات.
نقلا عن المصرى اليوم