سامي شرف

 منذ نشأة الدولة الوطنية العربية في منتصف القرن الماضي، وهي تواجه الكثير من المشكلات والتحديات، كان أبرزها مشكلات تتعلق بالنشأة نفسها، والتي حملت عوامل ضعفها إن لم يكن انهيارها في كثير من الحالات، وأخرى تتعلق بمؤامرات عديدة متعددة الأيديولوجيات والاستراتيجيات والأدوات للهيمنة على تلك الدولة، وإفقادها أي قدرة على التطور والبقاء.

 
ومن أبرز تلك الأيديولوجيات التي استهدفت النيل من الدولة الوطنية العربية، تيار الإسلام السياسي, الذي حاول أن يجعل من الدين مطية لأهدافه السياسية، ووسيلة لتحقيق أهدافه وأطماع سادته وداعميه من القوى الامبريالية الرامية للسيطرة على مقدرات المنطقة.
 
جهلا وعبثا، وتزييفا متعمدا للتاريخ، ومبادئ الدين السمحة، ومنطق التطور الإنساني والسياسي، حاول كهنة تيار الإسلام السياسي وعلى رأسهم كبيرهم حسن البنا أن يروجوا لمفهوم ما يسمى «دولة الخلافة»، باعتباره مبدءا دينيا، وجزءا من صلب العقيدة، على خلاف الحقيقة، التي يثبتها التاريخ والمنطق، بأن هذه الدولة كانت تجربة إنسانية بامتياز، وقائعها تؤكد أنها كانت نموذجا دمويا بالغ الفشل والسوء عبر قرونها باستثناء ومضات قليلة لا يمكن التأسيس عليها.
 
 
ورغم هذا، وتحت شعارات مزيفة من قبيل الأخوة الإسلامية، أو أستاذية العالم، يطالبنا دعاة الإسلام السياسي بإزالة حدودنا الوطنية، وتسليمها للسلاطين والأباطرة، كما يحلم سلطان أنقرة الجديد ومريدوه في العالمين العربي والإسلامي، وما هي إلا خطابات دعائية، تضليلية، لتمكين القوى الكبرى والإقليمية من العالم العربي من خلال بعثرة عناصر الهويات الوطنية، وتفكيك الدولة الوطنية، المصابة بالوهن والهشاشة في هذا المفصل الزمني، بحيث بات يغري هذه القوى وأعوانها بالنهش في جسدها المتهالك.
 
ولأسباب عديدة، وفي غفوة من الزمن، بل أسميها سقطة تاريخية، توهم هؤلاء أن حلمهم قد بات قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح حقيقة، ولم لا وقد تصوروا أنهم أحكموا سيطرتهم على مصر، بوصول عملائهم من جماعة الإخوان الإرهابية لسدة الحكم في مصر، وفي الوقت الذي كانوا يستعدون فيه مع حلفائهم لإعلان موت العروبة بالسيطرة على عقلها وقلبها، كان للشعب المصري وجيشه الوطني الرأي الفصل، فقلب الطاولة على بائعي الأوطان ومن يقفون خلفهم، وألقى بهم في مزبلة التاريخ، وسحقت مخططاتهم بيادات جيش مصر العظيم.
 
وكانت ثورة 30 يونيو 2013 بمنزلة قبلة الحياة، والفرصة الأخيرة للنظام الإقليمي العربي، وللدولة الوطنية العربية، ولكنها في الوقت نفسه أججت حقد أعدائها ضدها، وبات, كما يقولون، اللعب على المكشوف؛ فصار استهداف الدولة الوطنية عسكريا، ومخابراتيا، ومحاولة حصارها اقتصاديا وسياسيا أمرا يتم في العلن، فكان ظهور داعش وأخواتها بالأمر، عقب ثورة يونيو مباشرة مؤشرا بالغ الدلالة.
 
وللأسف استطاع أعداء هذه الأمة أن يحققوا نجاحات في هدم الدولة الوطنية في سوريا، وليبيا، واليمن والعراق من خلال إحداث انشقاق داخل المؤسسة العسكرية، وبين الشعب وقيادته في تلك الدول.
 
ورغم أن مصر كانت الهدف الأكبر والأهم، ولها النصيب الأكبر من التمويل والجهد، فإنها بفضل وعي شعبها العظيم وتلاحمه مع جيشه الوطني، واصطفافهما بقوة خلف قيادة وطنية حقيقية، استطاعت مصر الصمود، وفرضت إرادتها.. وعبرت مرحلة من أخطر مراحل تاريخها الحديث.
 
وما زالت مصر تقف وسط هذه العواصف العاتية، مانعا صلبا عصيا على الانكسار، تحاول لملمة الفرقاء، وجمع الصف في الداخل والخارج؛ ترفض أن تساوم أو تفاوض على مبادئ العروبة أو السيادة أو الأمن القومي، تعلنها صراحة أنها سوف تتصدى لجميع المحاولات الرامية لتدمير الدولة الوطنية العربية، ويؤكد ذلك رئيسها في كل المحافل، وهو يدرك لمن يوجه حديثه، وأي قوى يواجهها في سبيل ذلك.
 
وأعتقد أن الهجمة الشرسة التي تتعرض لها مصر والدولة الوطنية العربية بصفة عامة الآن ــ هي واحدة من أشرس الهجمات؛ حيث حالة التشرذم والفوضى ــ غير المسبوقة ــ التي يعانيها النظام العربي، التي جعلت منه رجل العالم المريض لهذا العصر، الذي تتنازع على إرثه قوى كبرى وإقليمية تقليدية، وأخرى ناشئة، وجدت ضالتها في عملاء من أبناء هذا النظام ممن دانت أنفسهم، وهانت عليهم أوطانهم مقابل وعود من أسيادهم بأوهام الثروة أو النفوذ أو البقاء في الحكم؛ فصاروا يخوضون ويدعمون حروبا مسلحة بالوكالة، وبصورة وحشية ومنظمة .. مدعومين بأجهزة مخابرات، وجيوش دول أخرى ضد إخوانهم في الوطن، وفي العروبة، مستهدفين تدمير الدولة القائمة، وتقويض مؤسساتها، وبث الفوضى والاضطراب فيها، أو إضعافها.
 
وفي هذا السياق، على كل مصري أن يدرك جيدا، أن العدو وأعوانه لن يألو جهدا أو يدخروا وسعا للنيل من مسببات القوة والمناعة المصرية؛ فتارة يتوهم قدرته على إحداث شرخ بين الشعب وقيادته مستغلا أزمة اقتصادية أو قضية خلافية أو حتى شائعة، وتارة يحاول أن يشكك في قدرة الجيش على حماية الشعب عبر عمليات إرهابية خسيسة، وأخرى يحاول الوقيعة بين مصر وشقيقاتها من الدول العربية...إلخ من المحاولات التي جميعها باءت بالفشل، ولكنه لن يكل ولن يمل.
 
لذا.. رسالتي لكل أبناء وطني, الاختلاف في الرؤى والتوجهات، والأساليب والأدوات، والمنهج والمسار وارد .. بل هو حق وصحي وطبيعي، بشرط أن يتوقف عند حدود سلامة وحدتنا الوطنية، وأمننا الاجتماعي والسياسي، وبقاء دولتنا قوية وسط هذه العواصف والمؤامرات التي تريد النيل منها .. كل شيء يمكن تعويضه، وإدراكه إلا الوطن, لو ضاع لا قدر الله, لضاع الجميع معه، ولن ينفع حينها الندم.. يوم لا ينفع الندم. حمى الله مصر وشعبها وجيشها.