الأقباط متحدون - هنا أسيوط.. والذي مصرُ تعيشُ فيه
  • ١٤:٠١
  • الاثنين , ١١ مارس ٢٠١٩
English version

هنا أسيوط.. والذي مصرُ تعيشُ فيه

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٣٤: ٠٩ ص +02:00 EET

الاثنين ١١ مارس ٢٠١٩

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

فاطمة ناعوت
زيارتى الخاطفةُ/ الطويلةُ لمدينة أسيوط'> أسيوط كانت إحدى أجمل الرحلات التى قمتُ بها فى حياتى. «خاطفةٌ»؛ إذْ لم أكد أشعرُ بمرورها، حتى انتهت، من فرط قِصَرها، و«طويلةٌ»؛ إذْ لا تقدرُ الأيامُ على محو أثرها من نفسى؛ مهما مرّتِ السنوات. يومان وحسب! نحيلانِ على مقياس الزمن، هائلانِ على مقياس الأثر والمعرفة والدفء الإنسانى الآسر. هى المدينةُ التى وضعها أجدادُنا المصريون القدامى، «السلفُ الصالحُ» كما يروق لى أن أُطلقَ عليهم، فى مرتبةٍ فائقة من بين مدن مصر الشريفة، لكونها قلبَ مصر الجغرافى، والمركزَ الرئيسى للقوافل التجارية المتجهة شرقًا وغربًا، ولهذا كان يسكنُها نائبُ الملك. أطلقَ عليها الجدُّ المصرىُّ اسم: «سَوْت»، وتعنى بالمصرية القديمة: «حارس»؛ لأنها حارسةُ حدود مصر العليا حيث صعيد مصر الجميل. ولأنها كانت الصخرةَ المنيعة التى ساندت مدينة «طِيبة» فى نضالها الباسل ضد الهكسوس الغُزاة، الذين دحرتهم مصرُ وطردتهم من أرضنا المباركة، لتتكوّن أقدمُ إمبراطورية عرفها العالمُ، ثم تحّول اسمُها فى اللغة القبطية إلى «أسيوط»، كما نعرفُها اليوم. أسيوط'> أسيوط قلبُ مصرَ النابضُ بالثقافة والحياة والأثر الطيب، تضمُّ بين ثناياها عشرات المناطق السياحية الفرعونية والقبطية والإسلامية، أهمُّها «الدير المحرّق»، الذى سكنته السيدةُ العذراء مريمُ البتول المطهّرة مع طفلها السيد المسيح عليهما السلام، شهورًا طوالاً، ومنها دير السيدة العذراء فى درنكة، ومسجد «الفرغل» فى أبوتيج، والمسجد الأموى وغيرها، عدا الآثار الفرعونية الخالدة.

وكانت واحدة من أجمل المِنح الطيبة التى مُنحتُها فى حياتى، لقائى بالمفكر المصرى الجليل: «باقى صدقة» فى أسيوط'> أسيوط البهية. وبالرغم من كونه قِسًّا إنجيليًّا كبيرًا وشهيرًا، إلا أننى أميلُ إلى التصنيف الفكرى والإنسانى، أكثر مما أميلُ إلى التصنيف العَقَدى والطائفى. فللإنسانية مِظلّةٌ أشملُ وأرحبُ من مظلات العقائد، وللفكر ساحةٌ تُجمِّعُ الفرقاء، وعينٌ ثاقبةٌ أكثرُ موضوعيةً؛ لأنها ترى جمالَ الإنسان وعبقريةَ خَلقه مهما كانت عقيدتُه ومذهبُه وإيمانُه. لهذا أُلقِّبُه بالمفكر الوطنى، والأستاذ الجليل، الذى خرجت من تحت يديه أجيالٌ من الوطنيين الشرفاء الذين علَّمهم قيمة «مصر» الوطن، وقيمة «الإنسان» الذى يُحبُّ الوطنَ، ويفتديه بكل ثمين وغال. بدأت علاقتى بهذا الرجل الجليل منذ سنوات طوال. يهاتفنى مرةً فى الأسبوع، ثم يُعلِّق، بصوته الأسر المميز، على مقالاتى فى ذلك الأسبوع بجريدتى الحبيبة «المصرى اليوم»، ويشدُّ على كفى مؤازرًا فى المحن التى أتعرّضُ لها بين الحين والحين من الدوجمائيين الإقصائيين أعداء الحياة. فى عهد الإخوان التعس، كان يطمئننى ويهدئ من وجلى قائلاً: «مصرُنا ستعود لنا. فلا تخافى. فهى محميةٌ بأمر الله فى الإنجيل وفى القرآن». وبعد ثورة 30 يونيو 2013 حين طردنا الإخوانَ الغزاةَ، كما طرد سلفُنا الصالحُ، الجدُّ المصرىُّ القديم، الهكسوسَ الغزاةَ، وقتها تغيرت عبارتُه إلى: «مصرُنا عادت إلى مصرِنا».

هذا الرجلُ النبيلُ، الذى مصرُ تعيشُ فيه، فريدٌ لا أحدَ يشبهه. إنْ طابَ لك الحظُّ والتقيتَه، ستعرفُ أنك فى حضرة إنسان عزَّ نظيرُه، نسجٌ وحده. إن تكلّم، تمنيتَ أن يتوقّف الزمانُ ولا يمرَّ حتى لا يُنهى حديثَه. وإن صمتَ ليُفكّرَ؛ تمنيتَ أن تركضَ الدقائقُ سريعًا حتى يعاودَ الحديثَ. أحببتُه سنواتٍ طوالاً قبل أن أراه. كانت المحادثاتُ التليفونية بيننا هى الوصال الوحيد، إضافةً إلى محاضراته التى أشاهدها على الإنترنت وكلماته فى الصحف وكتبه وترجماته القيمة. ولهذا كنتُ فى حال من الشغف لرؤياه رأى العين ومصافحته يدًا بيد بعد سنين من الانتظار لهذا اللقاء الثرىّ. فى الطائرة من القاهرة إلى أسيوط'> أسيوط، كنتُ أعدُّ الدقائق حتى أصل. وبعد مراسم الاستقبال الدافئة لى فى مطار أسيوط'> أسيوط بالحبِّ والزهور، كنتُ أسابقُ الجميع فى الطريق إلى قاعة المناسبات فى الكنيسة الإنجيلية الأولى بأسيوط، حتى ألتقى تلك القامة الفكرية والوطنية الشاهقة: «القس باقى صدقة»، راعى الكنيسة الإنجيلية فى أسيوط'> أسيوط، الذى أهدى المكتبة العربية قرابة الثلاثين كتابًا من عصارة فكره وترجماته للفكر العالمى. وأخيرًا التقت عيناى بعينى ذلك الرجل الذى يقطرُ وطنيةً ورقيًّا وتحضّرًا ومحبةً لله ولجميع خلق الله.

من عطايا الله الطيبة لى كذلك، أن كلّف الأستاذُ «باقى صدقة» الأصدقاءَ فى أسيوط'> أسيوط بتنظيم عدة زيارات جميلة لى كان من بينها زيارة «دار لليان تراشر للأيتام»، وزيارة «الدير المحرّق» بالقوصية، وزيارة «مدرسة السلام الحديثة» فى أسيوط'> أسيوط بمتاحفها: «الفرعونى والبيولوجى والكيميائى». وكلٌّ من تلك الزيارات الثمينة تستحقُّ مقالاً مفصّلاً لما تحويه من ثراء روحى ومعرفى هائل، يصعُبُ المرورُ عليها فى عجالة.

طوبى لمصر برموزها الثرية فى كل المجالات، وطوبى للمصريين بمصر العظيمة، وطوبى لكل مَن يحبُّ الوطن. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع