متى أدركت تحية الغواية؟
فن | medinaportal
٠٠:
٠٣
م +02:00 EET
الخميس ٢١ مارس ٢٠١٩
“غاوية ولا طفشانة؟“
كان السؤال فخًّا بالنسبة لطفلة خرجت للتو من سجن العائلة الى المجهول. وكانت صاحبة السؤال سعاد محاسن وحدها القادرة على إنارة جزء من هذا المجهول. كانت تحية تنتقل بالتدريج من “المساعِدات” إلى الكومبارس الصامت، ثم إلى المجاميع الراقصة. سئل السؤال الحاسم حين غابت فيوليت الراقصة عن البروفة الأخيرة لأحد العروض، فاقترح الممثل المهاجر من لبنان بشارة واكيم (1890-1949) أن تلعب “البنت الجديدة” الدور بدلًا من الغائبة… ترددت سعاد محاسن قليلًا ثم سألتها السؤال/الفخ. كان السؤال مباغتًا، لكن تحية بغريزتها في الفكاك من الفخاخ انحازت للغواية.
سيدة المخبأ
ربما كانت سعاد محاسن تمتحن نفسها وحساسيتها تجاه الخامات الجديدة. وربما كانت تتوثق من صحة قرارها بالموافقة على إيواء الهاربة من “عائلتها الصعبة..”، أو احتمال يكون هذا سؤال يتردد صداه داخلها هي شخصيًّا.
سعاد كان لها قدم راسخة في عالم الواقع المستقر، وقدم في أرض المغامرات وبناء “مملكتها” في عالم الفن؛ فقد هربت غاضبة من زوجها في الشام، وأقامت فرقتها في الإسكندرية وعاشت في القاهرة، والمدهش أن كل وجودها في تلك الأرض لا يذكر منه سوى “احتضانها” لتحية، وصورة تظهر نوعًا من جمال أول القرن العشرين؛ العيون الواسعة والملامح المتناسقة تحت نظرة شاردة بعيدًا، تحملها رقبة ممتلئة. وتقول المعلومات النادرة إنها كانت تقدم سكتشاتها ووصلاتها في صالة “الكورونا“، ولها أغنية أو اثنتين؛ منهما واحدة بالمصادفة تدعو فيها حبيبها للهرب من بابا والسفر بالقطار إلى الإسكندرية “نتفسح سوا ونرجع بكرة“.
كانت فترة هروبها قصيرة، تركت بعدها سعاد محاسن كل حصاد رحلة الهروب بعد قدوم زوجها للإسكندرية ومصالحتها، فعادت إلى نقطة الأمان السهل. لتختفي بعدها نهائيًّا، وكأن الهاربة كانت شخصًا مستعارًا في حياتها، سرعان ما أعادته إلى صندوق الذكريات بعدما تشبعت، أو لتكتمل الأسطورة وتلعب دور المخبأ لتحية بين حياتين.
الشجرة المحرمة
سؤال سعاد لتحية عن “الغواية أو الطفشان” هو خبرة تلك الأيام؛ إذ كان يمر عليها يوميًّا فتيات هاربات من “سجن” العائلة، ويبحثن في الفن عن “مساحة” لا تحتاج إلى شهادات أو ترتبط بالأصل أو الفصل.. ومعاييرها نسبية.. هذا عن الوجود في “أرض الفن الواسعة“.. لكن لكي تكون فنانًا فهذا يحتاج إلى الغواية، التي تجعلك تدفع وتحتمل وتستطيع اختراق الصفوف؛ فالغاوي يدفع ثمن غوايته.
تحية بإجابتها رفعت نفسها مرتبة/ درجة في سلم الهروب. لأن الطفشان باحث عن شيء غامض غير محدد تحركه إرادة متمردة، ذلك التمرد الطارئ أو الدائم، لكنه يُبقي الهارب في إطار “المسارات المحددة سلفًا“. فالغاوي إرادته ليست وحدها؛ هناك نداء يوقظ الشيطان في داخله. لا يكفي هنا أن نَصِفَ الطفشان بأنه “خد في وشه وهجّ“.. ولكن أن نتابع مسَّ الشيطان الهش والجامح معًا، وما ستفعله الغواية. وتحية أعلنت بإجابتها أنها لن تنتظر المجهول، وإنما ستمسك بأول طرف منه، وما لم تدركه وقتها أنها كانت تفصح عن رغبة مكنونة تمكنت منها إلى درجة أنها أصبحت قادرة على دفع الثمن. الحياة بدأت بغواية أكل التفاحة من الشجرة المحرمة. وخرج الغاوي من صفوف الطاعة والأمان اللاحق بها. وبدأت الحياة متعة وثمنًا لهذه الغواية.
الصوت والصخب
متى عرفت تحية أنها “غاوية..”؟
وقتها ربما كانت تتحايل من أجل فرصة ترقِّي. لكن الأيام أثبتت أنها كانت تسمع في هذا السن الصغيرة أصواتًا خافتة تحت ركام روح وجسد أكلهما التعب والخوف والوحدة… ومن الصعب تتبع إيقاع العلاقة بين هذا “الصوت الخافت” وبين “صخب إنقاذ حياتها..” وهو الإيقاع الذي استمر ولم يتوقف، بل ربما كان أحد مفاتيح حياتها. في الأساطير المكررة حول حياة تحية لم يظهر صوت الغواية إلا شاحبًا… حين رقصت مرة واحدة في فرح عائلي ولفتت الأنظار، بما في ذلك نظر سعاد محاسن، هذا طبعًا قبل أن تنال العقاب.
الأساطير الأولى حاولت أن تضع هذه اللحظة العابرة كأنها علامة على غواية الفن، لكن تحية كانت بعد اكتمال شهرتها، تحب أن تخرج عن تكرار نمط السير المبتذل وقتها، وهو نمط كان يسبغ على سيرة الراقصات ورحلة هروبهن إثارة… وتؤكد في تحدِ صارم “لم أترك بيت “بابَّا ” (تنطقها متهكمة على طريقة أولاد الذوات المتصنعين) لكي أرقص…”؛ كانت تُصر عل أنها هربت من التعذيب، وكانت تبحث عن أي عمل يدعم وجودها الجديد، كيلا تعود الى العائلة مضطرة حتى لو كان ذلك العمل: خدامة.
كان كل ما تحلم به تحية “الطفشانة” مساحة بعيدة عن طفولتها المعذبة… وأدركت بغريزتها التي حصلت على فرصة اليقظة أنها لا بد أن تكون “غاوية“.
بعد 50 عامًا، وقبل رحيلها بفترة قصيرة عندما يسألها صحفي في مجلة بيروتية عن “الذي خرجت به من مشوارها الطويل؟” ليكتب إجابتها بختام من نوع “ما زلت أستمتع بالحياة بالروح نفسها التي كانت تغمرني وأنا طفلة ألهو بأحلامي على شاطئ القناة في مدينة الإسماعيلية“!
وهذه غالبًا صياغة من ذهن الصحفي لتعبيرات غائمة قالتها تحية، من وحي المراوحة بين العنف والهشاشة. مراحل تجعل من البحث عن حكمة لحياتها، رحلة شائكة.. ومبعثرة. فكل من حاول الاقتراب منها كان ينحو نحو تعبيرات محفوظة في مصنع الأساطير أشهرها “الجدعنة“.. وكلها مفاهيم لا تفسر غموض وتعقيد الشخصية، وإنما تحوِّلها إلى شيء يمكن تداوله؛ وهذا أقوى ما حدث مع تحية، وشاركت هي بنفسها أحيانًا في صنعه: سيرة شخصية قابلة للتداول.
تحية ضد تحية
لم أجد إلا الجزء الأول من حلقات تروى حياة تحية كاريوكا؛ وأذيعت على موجات إذاعة صوت العرب للمرة الأولى في العيد الصغير سنة 1966.
وهي حلقات كتبها زوجها الأخير فايز حلاوة (1932-2002)، المخرج والكاتب والممثل الإذاعي والمسرحي، والذي صنع الفصل قبل الأخير من “النهاية ” تراجيدية الطابع لحكاية تحية كاريوكا.
اختارت تحية أن يكون عنوان الحلقات “شيء من حياتي” وليس “حياتي“، وأن تكون الراوية بصوتها، وليس هذا فقط، بل إنه مع نهاية كل حلقة يرن التليفون وترد تحية على صوت يقول لها: أنا أتابع قصتك، وسوف أحاسبك على أكاذيبك.. وأخطائك وكل كلمة أو تصرف..”.
هذا الصوت ليس إلا تحية كاريوكا نفسها.
أي أننا بين صوتين لتحية، ومستويين في حكاية حياتها، وهي تقنية كانت سائدة في أدب الستينيات؛ إذ كان الصوت الثاني هو الضمير، أو “الأنا العليا” بتعبير فرويد.. أو ربما هي نسخة من النسخ المتعددة للشخصية.
ماذا سنعرف أكثر عندما نستمع إلى تحية ضد تحية؟
الكلمات المتعلقة