كتبت – أماني موسى
قال الأنبا مكاريوس، أسقف عام المنيا وأبو قرقاص، من أشد التجارب على الانسان أن يُحرَم من البصر، والأشد من ذلك أن يُحرَم منه بعد أن يكون قد عاش مبصرًا لفترة من الزمن، ومن ثَمّ حُرِم من إمكانية الكتابة والقراءة والتمتع بالطبيعة والجمال.
وجاء عن القديس أنطونيوس أنه تقابل مع القديس ديديموس الضرير، وعرف كيف أنه عملاق، فقال له: "لا تحزن إن كنتَ قد حُرِمتَ البصر بالعين المُجرّدة، فهذه الحاسة يشترك معنا فيها الطير والحيوان بل والحشرات، ولكن البصيرة الروحية التي تتمتع بها يفتقر إليها الكثير من البشر".
وأضاف الأنبا مكاريوس في مقاله، سامح: شابٌ من الإسكندرية فاقد البصر، تخرج من كلية الآداب، واتقن الإنجليزية وأصبح مترجمًا، ليس ذلك فحسب وإنما يصوِّر الورق ويحوّله إلى نصٍّ، ويسمع النصّ ثم يترجم بالكتابة ويراجع، وكانت الحكومة الكندية لشهور مضت تستعين به.
التدرب على البصيرة: في الأديرة كنّا نتدرّب بعض التدريبات على الحياة بدون حاسّة ما مثل العمى، فنغمض عينينا ونسلك كما يسلك العميان لنرى إمكانية ذلك. ونتدرب كذلك على الصمم وهو أصعب التدريبات إذ بإمكاننا أن نغلق العين ونضبط اللسان، ولكن كيف نمنع الأذن من أن تسمع ما يُقال؟ هنا كنا نضبط أنفسنا حتى لا نتتبّع ما يُقال أو محاولة تفسير ما نسمع عن بُعد، وبالتالي نتدرب كثيرًا على عدم الفضول. ونتدرب على الخرس أي نصمت وكأنه لا قدرة لنا أصلًا على الكلام، لنخلص من خطية الإدانة والثرثرة وإهدار الوقت؛ ثم نتدرب على الشلل، سواء الجزئي مثل العرج أو فقدان اليد، أو الشلل الكلّي وكأن الشخص صار مقعدًا، ومن ثَمّ يتدرب على السلوك بهذ الحالة الصحية، حتى اذا ما فقد إحدى هذه الأعضاء بالفعل يستطيع التعايش مع الظروف الجديدة، وكذلك ليشعر من ثَمّ بالذين تعرّضوا لمثل تلك التجارب.
مضيفًا، ونحن نعرف أن هناك عين توجّه العين الخارجية وتُسمّى "العين الإرادية": وهي التي قصدها السيد المسيح عندما نصح بخلع العين متى أعثرتنا، ومثلها اليد (متى 18: 8، 9؛ مرقس 9: 43-47). كما أن هناك ما يُسمّى بالـ"بصر والبصيرة": وبالتالي يمكن القول بأن هناك فروقًا بين البصر والبصيرة، السمع والفهم والطاعة، مثلما تقول لطفل: "اسمع الكلام" وأنت تقصد بالطبع "أطع ما أقوله لك"، من هنا قال الرب: لهم عيون ولكنها لا تبصر ولهم آذان ولكنها لا تسمع، وقلب بالتالي لا يفهم ويستنير (مرقس 8: 18).
وعند تدريب الحواس نفرّق بين الذي "شاف" والذي "يتشوّف"، أو الذي رأى والذي يتطلّع، والذي نظر والذي يسترق النظر، والذي سمع والذي يتسمّع، والذي شمّ والذي يتشمّم، وغيرها. حين نرى أو نسمع شيئًا فإننا لا نُلام من ضمائرنا، ولكن حين نعود لنتحقّق ممّا وصلنا وفيما لا ينفع، نجلب حروبًا على أنفسنا. هذا هو الشفاء الذي تحتاجه العين لشخص يظن في نفسه أنه مبصر..
ولشفاء الأعمى معنى هام وهو إعادة البصيرة التي فقدها الانسان بالسقوط، وهكذا أيضًا شفاء الأخرس لتبدأ البشرية في الحديث عنه والتبشير باسمه، وشفاء الأصم لكي تبدأ الآذان في تمييز صوت الله. وهكذا نرى البُعد المسياني في معجزة شفاء الأعمى «فقالَ يَسوعُ: لدَينونَةٍ أتَيتُ أنا إلَى هذا العالَمِ، حتَّى يُبصِرَ الّذينَ لا يُبصِرونَ ويَعمَى الّذينَ يُبصِرونَ» (يوحنا 9: 39)، ويقول الرب لتلاميذه: «مِنْ أجلِ هذا أُكلِّمُهُمْ بأمثالٍ، لأنَّهُمْ مُبصِرينَ لا يُبصِرونَ، وسامِعينَ لا يَسمَعونَ ولا يَفهَمونَ. فقد تمَّتْ فيهِمْ نُبوَّةُ إشَعياءَ القائلَةُ: تسمَعونَ سمعًا ولا تفهَمونَ، ومُبصِرينَ تُبصِرونَ ولا تنظُرونَ. لأنَّ قَلبَ هذا الشَّعبِ قد غَلُظَ، وآذانَهُمْ قد ثَقُلَ سماعُها. وغَمَّضوا عُيونَهُمْ، لئَلّا يُبصِروا بعُيونِهِمْ، ويَسمَعوا بآذانِهِمْ، ويَفهَموا بقُلوبهِمْ، ويَرجِعوا فأشفيَهُمْ. ولكن طوبَى لعُيونِكُمْ لأنَّها تُبصِرُ، ولِآذانِكُمْ لأنَّها تسمَعُ. فإنّي الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّ أنبياءَ وأبرارًا كثيرينَ اشتَهَوْا أنْ يَرَوْا ما أنتُمْ ترَوْنَ ولَمْ يَرَوْا، وأنْ يَسمَعوا ما أنتُمْ تسمَعونَ ولَمْ يَسمَعوا» (متى 13: 13-17).
موضحًا، إن الأسرة تقدم الطفل إلى الكنيسة أعمى، وما أن يولد من البطن التي هي جرن المعمودية حتى يستنير، ومن ثَمّ تُسمّى المعمودية "سر الاستنارة"، وفي أحد التناصير تقرأ الكنيسة فصل المولود أعمى، فقد استنار الأعمى بالماء بل وتحول إلى واعظ ولاهوتي.
عندما تتدرّب عيون الناس على البصيرة تبدأ في أن ترى ما لا يُرى: «ونَحنُ غَيرُ ناظِرينَ إلَى الأشياءِ الّتي تُرَى، بل إلَى الّتي لا تُرَى. لأنَّ الّتي تُرَى وقتيَّةٌ، وأمّا الّتي لا تُرَى فأبديَّةٌ» (كورنثوس الثانية 4: 18)، وفي الرسالة إلى أفسس يقول: «مُستَنيرَةً عُيونُ أذهانِكُمْ، لتَعلَموا ما هو رَجاءُ دَعوَتِهِ، وما هو غِنَى مَجدِ ميراثِهِ في القِدّيسينَ» (أفسس 1: 18).
تزوج شخص كفيف من سيدة مبصرة، وكانت تردّد أمامه كثيرًا إنه لو كان مبصرًا لاستطاع أن ينعم بجمالها، ولكنه للأسف لا يستطيع تقدير هذا الجمال! ولما سئم ترديدها لمثل هذه الكلمات سألها مستنكرًا بعد أن فاض به: على فرض أنك جميلة بالفعل كما تدّعين، فلماذا تركك المبصرون إذًا؟!!
كان جميلًا من السيد المسيح أن يأخذ المسيح الأعمى من يده برفق على ناحية، مثلما فعل عند شفاء الأصم الأخرس «فأخَذَهُ مِنْ بَينِ الجَمعِ علَى ناحيَةٍ...» (مرقس 7: 33)، لقد أخذه بعيدًا ليتدرّج في شفائه لئلا يُصدَم، مثل الذي يعطش جدًا فيسقونه قليلًا قليلًا. وربما يشير الشفاء على مرحلتين إلى النمو المتدرّج في معرفة الله