كتبت – أماني موسى
تحت عنوان "وجوه وأجنحة الإخوان الـ "عشرة" في السودان"، كتب الكاتب والباحث ماهر فرغلي، يؤكّد البيان الذي نشره المراقب العام لجماعة الإخوان بالسودان، عوض الله حسن سيد أحمد، على صفحته في فيسبوك، والذي دعا فيه جماهير الشعب لمواصلة اعتصامها في الميادين، وأمام القيادة العامة للجيش، حتى يتحقق التغيير؛ أنّ هناك كثيرًا من الوجوه، وكثيرًا من التنوعات، لكنّ المحصلة النهائية هي أن تلك الأجنحة التي بينها صراع مكتوم هي شيء واحد؛ وهو جماعة الإخوان بالسودان، التي تخضع كحركة بشرية إنسانية لما تخضع له الحركات الأخرى من وجود رؤى مختلفة، لكنّها تسعى لتحقيق الهدف ذاته، وهو الوصول للسلطة.
بعد بيان المراقب العام للجماعة، بدأت تُطرح أسئلة: من الذي يريد الثورة بالميدان، ومن الذي كان في قصر الحكم؟! وأية خلافات بين المؤتمر الشعبي العام وبين جماعة الإخوان؟ وما الفروق بين المؤتمر الشعبي العام والمؤتمر الوطني الحاكم؟ أليسوا كلهم إخوان؟! إنّها أسئلة منطقية، لكنها في الوقت ذاته تشير إلى الطبيعة الهلامية للجماعة.
بدأ الإخوان المسلمون في السودان في الأربعينيات، كامتداد لحركة الإخوان التي أسسها حسن البنا في مصر، لكنّها اكتسبت وجوداً مستقلاً بنظريات خاصة بها، بعد قضاء عبد الناصر على المنظمة الأم في الخمسينيات، وظهرت خلال هذه الفترة وجوه متنوعة للجماعة، بنكهة يسارية اشتراكية، وكان منها: الحزب الاشتراكي الإسلامي، الذي تأسس عام 1949 ـ 1954، بمجهود طلاب جامعة الخرطوم؛ بقيادة بابكر كرار، وميرغني النصري، وغيرهما، ولم يكن لهذا التنظيم ارتباط مباشر بجماعة "الإخوان"، لكنّه وقادته تأثروا بالكتيّبات والمجلات القادمة إليهم من مصر.
التقى قادة الحزب بوفد زائر من حركة الإخوان، عام 1952، وتحاوروا معه مطولاً حول اقتراح بالالتحاق بالحركة؛ حيث تصبح فرعاً لها بالسودان على غرار ما تم في الأردن وسوريا والعراق وغيرها، لكن اللقاء انتهى دون اتفاق، ما شجّع فيما بعد على التداخل بينهم؛ حيث كان بعض أعضاء حركة الحزب يرتادون منتديات حركة الإخوان، التي كان يتزعمها علي طالب الله، لدرجة أنّه صار من الصعب التمييز بين التيارين.
الهلامية والتداخل أدّيا إلى استقالة زعيم الحزب في أواخر عام 1952، وفي آب (أغسطس) 1953؛ قرّر بابكر كرار العودة وتدبير "انقلاب" ضدّ الإخوانيين؛ حيث إعادة التأكيد على اسم حزب التحرير الإسلامي الاشتراكي وبرامجه التي تتمحور حول الاشتراكية الإسلامية، وقد جرت محاولة حسم هذه الخلافات بعقد مؤتمر آخر، في آب (أغسطس) 1954، اشتهر بمسمى "مؤتمر العيد"؛ حيث قرر تسمية الحركة رسمياً باسم "الإخوان المسلمين"، وانتخب لها قيادة جديدة، على رأسها أمين عام (اختير محمد الخير عبد القادر)، لكنّ هذا الإجراء أدى إلى مزيد من الاضطراب والانشقاقات؛ حيث أعلنت مجموعة كرار انفصالها، وأطلقت على نفسها اسم "الجماعة الإسلامية"، بينما اعترضت مجموعة علي طالب الله على المؤتمر ونتائجه، وتمسّك طالب الله بشرعية قيادته، وتمت تسوية الخلافات جزئياً، وانتخاب قيادة جديدة من أنصار طالب الله، حيث أصبح المحامي الرشيد الطاهر بكر هو المراقب العام للجماعة.
نشأت خلال فترة الخمسينيات والستينيات تشكيلات عدة، تنسب نفسها إلى الإخوان، حتى ظهرت جماعة الإخوان المسلمين في السودان بشكل رسمي عام 1954 ـ 1964، وكان مراقبها الأول محمد الخير عبد القادر، وفي هذه الفترة التحق أعضاء سودانيون بالحركة في مصر، كان أبرزهم جمال السنهوري، الذي أصبح مسؤول قسم أفريقيا في مكتب الاتصال بالعالم الإسلامي، وصادق عبد الله عبد الماجد.
وظهر الترابي؛ الذي أعلن تأسيس جبهة الميثاق الإسلامي، عام 1964 ـ 1969، كتحالف إسلامي بين "الإخوان المسلمين" و"السلفيين" و"الطريقة التيجانية الصوفية"، وكانت جزءاً من الإخوان المسلمين، ويقود مكتبها التنفيذي وزير الثروة الحيوانية، محمد صالح عمر، وتم اختيار الترابي أميناً عاماً، لكن رفضه كلّ من: محمد صالح عمر، والشيخ محمد مدني سبال، والشيخ جعفر الشيخ إدريس، والشيخ علي جاويش، الذين انشقوا وأسسوا جماعة الإخوان، التي يترأسها الآن المراقب العام، عوض الله حسن سيد أحمد.
فتح عمر البشير بلاده للإخوان بعد توجيه التنظيم الدولي أتباعه في مصر وقطر وتركيا ومناطق أخرى للسفر إلى السودان
وثق السوداني منصور خالد، في كتابه "الفجر الكاذب"، وجهاً جديداً للجماعة، وهو "الاقتصادي"؛ حيث بدأ تغلغلها في أطراف الدولة بالتركيز على جانب الاقتصاد والمال، واستغلال النفوذ، والتشريع بما يخدم مصالح عصبتهم، فتأسست البنوك الإسلامية التي كانت تنال قسطاً وفيراً من عدم المراجعة الحكومية، وتم وضعها خارج نطاق مسؤوليات بنك السودان المركزي، بحجة أنّها تحرّم الرّبا، وجاءت بالجديد غير الذي كان في ذلك العهد، الذي وضع فيه الإسلاميون أقدامهم على سلّم الترقي لأعلى مراتب التشريع والتنفيذ، والمفارقة أنّ العصبة ذتها عادت للتحدث عن جواز القروض الربوية خلال الأعوام الأخيرة.
وحينما تم تأسيس التنظيم دولياً، في بداية السبعينيات؛ كان الترابي، الذي سيطر على الجماعة في السودان، لا يريد أيّة صلة بالحركة الأم في مصر، تنظيمياً وتربوياً وفكرياً، وهذا ما جعل الحركة العالمية تتهيّبه، رغم اتصال الدعم المعنوي والمادي، حتى انقطعت هذه الصلة، عام 1988؛ حينما حاول الترابي أن ينشئ تنظيماً موازياً للتنظيم العالمي، ووصفته الجماعة الأم آنذاك بـ "تنظيم الضرار"، وأصبحت حركة "الترابي" منفلتة وبعيدة عن النبض الإخواني العام للتنظيم.
الجناح الإخواني نجح في الالتزام بتعليمات مكتب الإرشاد العام ومجلس الشورى العام بمصر، وحتى الآن هو جناح تنظيمي خالص، يتميز بتقديمه التربية التنظيمية على حساب السياسية، ويختلف عن الجناح (المسودن)؛ الذي كان يقوده حسن الترابي حتى وفاته، والذي أصبح اسمه فيما بعد "الجبهة الإسلامية القومية"، وخطط ونجح في الولوج إلى باب الاقتصاد والسيطرة على مراكز السلطة والثروة، بدءاً من عام 1986 - 1989.
بعد أن ولج من باب الاقتصاد والسياسة؛ نجح الترابي في انقلاب 30 حزيران (يونيو) 1989، وظهر في هذه الآونة وجهان في الجماعة: الأول إخواني، والثاني سلفي، وانتهى الخلاف بينهما إلى انشقاق جماعة "الإخوان"، جناح أبو نارو، وجماعة "الإخوان المسلمين ـ الإصلاح"، التي غيّرت اسمها لاحقاً إلى "جماعة الاعتصام بالكتاب والسنّة"، وأعلنت فيما بعد بقائها داخل التنظيم الأم بحجة أنّ ما حدث كان "خصماً وتلبيساً على المنهج، وخلطاً للمواقف، وحيرة للمدعو، وحرجاً على الداعي".
في هذه الآونة تأسس حزب المؤتمر الوطني الحاكم، عام 1994، وبعد الخلاف بينهما أسس الترابي حزب المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي عام 1999، ليكون حزباً معارضاً، ولتتحول العلاقة بين التنظيم الإخواني المتمصّر ونظام الرئيس (البشير) إلى علاقة تكاملية أكثر من أيّ وقت مضى؛ لحاجة الطرفين إلى بعضهما، وهذا ما سيفسر فيما بعد استقبال السودان للهاربين من جماعة الإخوان عقب وصول السيسي للحكم بمصر.
ووفق ما كتبه مسلم محمد هنيدي، بالمركز الديمقراطي العربي، توغلت الجماعة عبر السيطرة على الاقتصاد السوداني، وأسست الشركة المصرية الإسلامية، وشركة كنانة، والشركة المتحدة للحديد والصلب، وكانت تلك الشركات من أسباب الانهيار الاقتصادي في السودان، وذلك لأنها ضربت بأموالها في الدولار، كما بدأ هؤلاء يسحبون أموالهم من السوق ويضخونها في عمليات نوعية، كما توسّع النشاط الاقتصادي للإخوان في السودان، واتجه للولايات السودانية، وخاصة مجال السلع الاستهلاكية والسلع الكمالية، ولهم حالياً نشاط اقتصادي بالمدن الريفية؛ كمدينة كسلا، ومدني، والأبيض، وذلك بعد قرار إبعاد نشاطاتهم الاقتصادية عن العاصمة، ليتمثل وجودهم الاقتصادي قاعدياً في تلك المدن عبر ورش ومكابس حديد، ومحال تجارية.
وشكّل السودان نقطة التقاء وبيئة مناسبة لجمع شتات الإخوان الهاربين من الملاحقات الأمنية والشعبية في مصر، وكذا شكّل بيئة مناسبة لجمع وحشد كل العناصر الحركية التي تستهدف الداخلين المصري والليبي أو غيرهما، في أفريقيا والمنطقة العربية.
وفتح البشير البلاد للراغبين بالإقامة الدائمة من الإخوان، بحسب هنيدي، وذلك بعد أن وجه التنظيم الدولي للإخوان أتباعه في مصر وقطر وتركيا ومناطق أخرى للسفر إلى السودان، للاختباء والاستقرار، أو حتى العمل فيه بعقود بسيطة، ليصبح السودان مقرّ إقامة دائمة للعديد من عناصر الإخوان المسلمين، بعد أن كان مجرّد منفذ للخروج من مصر هرباً إلى قطر وتركيا، بعد تورطهم في عمليات إرهابية في مصر.
وساعدت سياسة التوظيف بالمؤسسات الإسلامية، التي فضّلت المتدينين، في ارتقاء طبقة جديدة من رجال الأعمال الذين أصبحوا أغنياء بين ليلة وضحاها، وفتحت مجالات من التحرك الاقتصادي للكثير ممن كانوا سيصبحون، في أعلى تقدير، موظفين كباراً بالخدمة المدنية، وفتح ذلك المجال للفساد المتجذر بالدولة والذي أدى إلى سقوط حكم البشير فيما بعد.
ومع علاقة الجماعة بالسلطة، متمثلة في عمر البشير، ومع المناورة التي كان يقوم بها الأخير لاستخدام الجماعة لمواجهة خصومه، جرى انشقاق جديد داخل الجماعة الحركية التنظيمية، بين رفقاء الأمس؛ الشيخ الحبر يوسف نور الدائم، والشيخ علي جاويش، اللذيْن رفضا من قبل ابتعاد الترابي عن التنظيم المصري.
وبحسب بيان المراقب العام للجماعة، الشيخ علي جاويش، قبل عامين، فإنه اتخذ قراره بحلّ مجلس الشورى بسبب ما أسماه "محاولات جيوب حرف خطّ الجماعة عبر محاولتهم إخراج الجماعة من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وترفيع أعضاء للمؤتمر العام دون المرور بأمانة التربية والعضوية، وأن هذه المجموعة أعلنت أنها ترغب في تحويل الجماعة إلى حزب سياسي".
واجتمع مجلس شورى الجماعة بشكل طارئ، ونظر في قرارات المراقب العام، فوجدها تهدد وحدة الجماعة، ولها تداعيات سالبة جداً؛ فقرّر المجلس اتخاذ قرارات حاسمة هي: عزل المراقب العام الشيخ علي جاويش، وتجميد عضوية أعضاء المكتب التنفيذي الذين أيدوه، ومبايعة المراقب العام السابق للجماعة، الشيخ الحبر يوسف نور الدائم، مراقباً عاماً مؤقتاً لحين انعقاد المؤتمر العام، والذي قرر في النهاية تكليف الشاب الأربعيني، الطبيب عوض الله حسن، بتولي منصب المراقب العام، في كانون الأول (ديسمبر) 2017، مقابل تنحية المراقب العام السابق للجماعة، الشيخ علي جاويش.
الوجوه الإخوانية السودانية برزت كأكبر مثال على الاستخدام الحركي الخفي من أجل المرور بالمجتمع، وتسويق المرونة الأيديولوجية والسياسية، عبر صناعة تنظيمات مختلفة تستطيع عقد التحالفات مع قوى سياسية غير إسلامية، وأحياناً غير مسلمة، واستخدام ذلك في توغّل التنظيم، ومن هنا يأتي بيان المراقب الإخواني، عقب الإطاحة بحكم البشير، دليلاً واضحاً على كيفية تحقيق الهدف ذاته؛ وهو القفز للسلطة.