د.ماجد عزت إسرائيل
هنا نريد التركيز على إجراءات وقانونية المحاكمة للسيد المسيح، ولابد لنا من طرح سؤال هل تم محاكمة يسوع أمام سلطة دينية (اليهود) أو سلطة مدنية(الرومان) أم تم محاكمته دينياً ومدنياً، وهل اتبعت الإجراءات القانونية في هذه المحاكمة؟ وهل لعب اليهود دور في التأثير على الحكام الرومان؟ وأن كان ذلك كذلك فما نتيجة ذلك؟ وماهى تهمة السيد المسيح؟ هل تهمة دينية أم مدنية؟ وهل كان الحق للسيد المسيح فى الدفاع عن نفسه؟ أم لابد من وجود هيئة دفاع عنه؟ وهل كان من حق السيد المسيح نقل قضيته أمام محكمة أخرى؟ أم هذه هي طرق المحاكمات في ذات الفترة التاريخية أى زمن حكم الرومان لمدينة أورشليم؟ وهذا ما سوف نوضحه عبر سلسلة من المقالات في الأيام القادمة.
هنا يجب علينا أن نوضح معنى كلمة المُحَاكَمَةُ حيث لا تتم إلا للْمُجْرِمِ أى محاكمة المجرم على جريمته وتعنى: اِسْتِجْوَابُهُ فِيمَا جَنَاهُ مِنَ أَعْمَالٍ إِجْرَامِيَّةٍ،والمحاكمة في القانون هي اجتماع للحكم بين عددٍ من الأطراف المتخاصمة في شأنٍ ما، لتقديم معلومات على صورة دليل قانوني في جلسة قضائية داخل محكمة، أمام سلطة مسؤولةٍ عن القضاء في الخلافات والنزاعات. وتتولَّى هذه السلطة، سواء كانت قاضياً أو هيئة محلفين أو سلطة أخرى، مهمة البتّ في الخلاف المطروح.
بعد القبض على السيد المسيح ساقوه من بستان جثسيماني- جثسيماني في الآراميّة : جت سماني :أى معصرة الزيتون. وهو مكان قرب جبل الزيتون (لو 22 :39) وكان ولا شك يخصّ أحد التلاميذ، لأنّ يسوع كان يذهب إليه مرارًا (يو 18 :2). وفي ذات المكان توجد كنيسة يرجع تاريخها إلى قبل القرن الرابع الميلادي - عبر وادي قدرون والطرق الغير معبدة ودخلوا بالسيد المسيح من باب الأسباط إلى دار رئيس الكهنة اليهودى "قيافـــــــا" أى أمام محكمة دينية.
قيافا
كان قيافا متزوجا من ابنة حنّان، رئيس كهنة السابق. (يوحنا ١٨:١٣) وعلى الارجح، رُتب لهذا الزواج قبل عدة سنوات من عقده. فقد حرصت العائلتان على عقد تحالف مثمر، مما عنى انهما تفحصتا سلالتا النسب للتأكد من نقاوة السلالة الكهنوتية المنحدرة منهما. فضلا عن ذلك، كانت هاتان العائلتان، على ما يظهر، من الطبقة الارستقراطية الثرية إذ امتلكتا أراضي شاسعة في منطقة اورشليم. ولا بد ان حنّان اراد صهرا يكون في الوقت عينه حليفا سياسيا يُعتمد عليه. ويبدو ان حنّان وقيافا كليهما انتميا الى مذهب الصدوقيين الذي تمتع بنفوذ كبير. — اعمال ٥:١٧. وفي نوفمبر ١٩٩٠م، تم أكتشاف مقبرة عائلة آل قيافا على بعد نحو كيلومتر جنوبي الجزء القديم من مدينة القدس. فقد احتوت هذه المقبرة على(١٢) صندوقا. وبين هذه الصناديق عُثر على صندوق مزين بنقوش مميزة جعلته واحدا من اروع الصناديق التي وجدت. وقد حُفر على احد جوانبه اسم يِهوسِف بار قيافا (اي يوسف بن قيافا). الخلاصة.. كان قيافا متزوج من اينة حنان رئيس الكهنة السابق،وربما كان لديه ابن يدعي "يوسف بن قيافا" وبما أن قيافا كان عضوا في عائلة كهنوتية بارزة، فقد نال تعليما شمل دراسة الأسفار العبرانية وتفسيرها. ولا بد أن خدمته في الهيكل بدأت عندما كان بعمر ٢٠ سنة، لكننا لا نعرف في أي سن صار رئيسا للكهنة.
منصب رئيس الكهنة
كان منصب رئيس الكهنة في الأصل ينتقل بالوراثة ويشغله صاحبه مدى الحياة. لكنّ الحشمونيين اغتصبوا هذا المنصب في القرن الثاني قبل الميلاد، كما صار هيرودس الكبير يعيِّن ويعزل رؤساء الكهنة حسبما يشاء، لكى يظهر للمجتمع اليهودى أن رئيس الكهنة خاضع له. وعلى شاكلته صار الحكام الرومان حتى زمن الحكم على السيد المسيح. ودفعت هذه التطورات إلى أصدار قانون يسمح لرؤساء الكهنة السابقين، الذين عُزلوا عن منصبهم أن يحتفظوا بلقب رئيس كهنة. كما ضمّ هذا الفريق أيضا أفراد العائلات المقرَّبين من رئيس الكهنة الحالي ورؤساء الكهنة السابقين،ولذلك شارك حنان في محاكمة السيد المسيح، وربما كان قيافا ألعوبه في يد حماه (حنان)،أو كان ضعيف الشخصية. وكان رئيس الكهنة قديما يسمّى عظيم (أو : رئيس) الكهنة ويدعى "ارخياراين" ليس فقط على عظيم الكهنة الحالي مثل قيافا، بل على عظيم الكهنة السابق مثل حنان، ورؤساء الكهنة: قائد الهيكل، رئيس القسم الأسبوعيّ، رئيس القسم اليوميّ، مراقب الهيكل، أمين الصندوق. وهذا ما يفسّر أن يكون حنان قد سمّي "ارخياروس" في يو 18 :19، وأن تستعمل اللفظة مرارًا في صيغة الجمع في العهد الجديد (مت 2 :4؛ 16 :21؛ 20 :18؛ 21 :15، 23، 45). هم "رؤساء الكهنة" الذين تحالفوا مع الكتبة والشيوخ والفريسيّين ليهلكوا يسوع. وكان هناك شروط لمن يتولى منصب رئيس أو عظيم كهنة، وجب عليه أن يكون من عائلة كهنوتيّة نقيّة (لم يدخلها غريب). أن يكون قد تزوّج فتاة عذراء عمرها بين 12 و 12 سنة ونصف السنة، فتاة تكون هي أيضاً من سلالة كهنوتيّة أو لاويّة أو إسرائيليّة شرعيّة (هناك حالات عديدة يستحيل عليه أن يكون رئيس كهنة : إذا كانت المرأة أرملة، مطلّقة، مدنّسة، سبيّة حرب). في الحالات العاديّة، كانت امرأة عظيم الكهنة من كبرى العائلات الكهنوتيّة. وكانوا يهتمّون بالأنساب الحقيقيّة (وكانت مشاكل بعد العودة من المنفى لدى الذين لم يستطيعوا أن يبرهنوا على نسبهم). في زمن يسوع، أكّدت عائلة رئيس الكهنة أنّها تنحدّر من صادوق الذي كان عظيم الكهنة في أيام داود وسليمان.
وفي عهد هيرودس الكبير، تبدّلت قاعدة الخلافة : لم يعد عظيم الكهنة يعيّن مدى الحياة. ولم تعد وظيفته وراثيّة. وهكذا فمن سنة 37 ق.م. حتى سنة 70 ب.م.، 25 عظيم كهنة من أصل 28 خرجوا من عائلات كهنوتيّة عاديّة. في الواقع، لقد ذهبت العائلات الشرعيّة إلى مصر مع أونيا ووجدت هناك هيكلاً في ليونتوبوليس (اليهوديّة، في الدلتا). أما سلسلة عظماء الكهنة في زمن العهد الجديد فهي كما يلي : حنان (6-15)، اسماعيل، ابن فيابي الأول (15-16)، اليعازر بن حنان (16-17)، سمعان بن كميث (17-18)، يوسف قيافا (18-37).
وكانت هناك شروط لمن يتولى منصب عظيم كهنة، وجب عليه أن يكون عمره فوق العشرين سنة وهو العمر القانونيّ للكهنة. غير أنّ أرسطوبولس ابن مريمنة قد عيّنه هيرودس وهو ابن 17 سنة، وذلك سنة 35 ب.م. في ذلك الوقت، كان عظماء الكهنة يرتبطون ارتباطًا كلّيًّا بالسلطة السياسيّة. كيف يبدأ عظيم الكهنة مهمّته؟ فرضت الشريعة المسح بالزيت (خر 29 :7)، وارتداء الملابس الكهنوتيّة (خر 29 :30). وكانت عبارة عن ملابس قميص أبيض مشدود على الخصر بحزام يدور حوله ثلاث مرات ويسقط إلى الرجلين. وفوق ذلك قميص أزرق غامق لا أكمام له، في أسفله رمانات بنفسجيّة وحمراء تتناوب مع أجراس من ذهب نجهل دورها (قد تطرد الأرواح النجسة، قد تنبّه الله ليكون حاضرًا مع شعبه). وفوق هذا القميص الأزرق الغامق، درع وأفود مع كتفيّات من ذهب وحجرين من العقيق حُفرت عليهما أسماء القبائل الاثنتي عشرة. ويمسك هذا الأفود حزام متعدّد الألوان. ويضع عظيم الكهنة على صدره الصدريّة وهي جيب مربّع يتضمّن أوريم وتوميم وهي أحجار مقدّسة من أجل سؤال الرب.
وكانت الصدريّة مزيّنة من الخارج بأربعة صفوف من ثلاثة أحجار ثمينة (مع أسماء الأسباط الاثني عشر). وكان عظيم الكهنة يضع على رأسه عمامة بشكل تاج، يزيّنها رباط مع زهرة ذهبيّة حُفر عليها عبارة "مقدّس للرب". هذا اللباس كان يُحفظ لأيام الأعياد ولبعض المناسبات، ولاسيّما يوم التكفير (يوسيفوس، العاديات 3 :159-160؛ رج لا 16 :4، 23؛ سي 45 :8-12). كما وجب عليه أن يكون في حالة قداسة (طهارة) دائمة. فعليه أن يكون دومًا جديرًا بالخدمة الدينيّة. فلا يحقّ له أن يلمس ميتًا ولو كان أحد أقاربه (امرأته، أولاده). وأيضًا عليه أن يقضي سبع ليالٍ في قاعة من قاعات الهيكل. فإن لم يكن هو مستعدًّا، وجب على قائد الهيكل أن يخضع للفرائض عينها من أجل يوم كيبور.
وكان رئيس الكهنة يجمع ما بين السلطة القضائيّةوالإداريّة.فهو يرئس السنهدرين أو السنهدريم. وحين يترك وظيفته، فهو يبقى خاضعًا لكلّ القواعد ويحافظ على جزء كبير من هيبته (مثلاً، حنان في محاكمة يسوع مع أنّ عظيم الكهنة كان قيافا، رج يو 18 :13-14؛ أع 4 :6). وينعم رئيس الكهنة باعتبار كبير جدًّا. فهو رئيس السنهدرين الذي تصل صلاحيّاته إلى جميع اليهود في العالم. وهو كافل خزنة الهيكل.وهو الرجل الوحيد الذي يدخل إلى قدس الأقداس مرّة في السنة (خر 29 :42). إنّه حقًّا الوسيط بين الله والبشر (عب 5 :1). كيف يعيش عظيم الكهنة؟ خادم الهيكل يعيش من الهيكل(رج 1كور 9 :13). ومداخيل الكهنة هي البواكير التي يختار عظيم الكهنة أفضلها : ذبيحة عن الخطيئة، وذبيحة تعويضيّة، وجزء من تقدمات الحنطة والزيت والخمر،أربع من خبزات التقدمة الأسبوعيّة الاثنتي عشرة. جلد حيوان المحرقات.