د. مينا ملاك عازر
عرضت في المقالين السابقين في هذه السلسلة التي أود أن أختتمها اليوم - بإذن الله- أزمتان كبيرتان تواجه الثورات عامة والثورات العربية، وبالأخص ثورات الربيع العربي، وهما الأولى ضرورة رضا الجيش وإلا استحالت لحرب أهلية كما الحال في اليمن وسوريا، والثانية أزمة الرجل الذي يصير رأساً، فهو إما صنيعة النظام الذي من المفترض أن الثورة أسقطته أو يحمل نفس أفكار النظام السابق أو قلق من الشعب لأنه وعلى مرأى منه أسقط سابقه، فيقلق ويخشى أن يتكرر معه نفس الفعل الشعبي هذا، فينتقم أو ينكل، وللعلم وبشكل قاطع أن لكل قاعدة استثناء، وأنا أتحدث عن القاعدة ولا مجال في المساحة لأتحدث عن استثناءات كلنا نعرفها، لم يتبع الرجل الذي حل محل النظام نهج انتقامي أو تنكيلي بالشعب الثائر وثواره.
آخر تلك الأزمات في حسب رأيي هي تلك الأزمة التي تشرحها النظرية التالية أو القانون الآتي، وهو قانون يعرفه جيداً كل من يعمل بالاقتصاد ويفهمها، ولذا فاسمحوا لي أن أعرض القانون أو النظرية ونشرحه ثم نعود للأزمة فيكون شرحها سهلاً.
كل من درس الاقتصاد يعرف جيداً ما يسمى قانون كريشام والمنسوب لتوماس كريشام الذي عاش من 1519-1579 م، والقانون هو قانون علمي اقتصادي له دور مشهور في النظم النقدية، عرف باسم قائله السير كريشام مستشار ملكة انجلترا، ويتلخص هذا القانون في العبارة الشهيرة النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق، وذلك لأنه في البلاد التي يتم تداول نوعين من النقود القانونية، أحدهما رديء والآخر جيد، فإن الرديء يطرد الجيد من التداول بين الناس، وقد لاحظ كريشام هذه الظاهرة في بلاده إنجلترا، حيث كلما ضربت نقود جديدة لتحل محل نقود قديمة متاحة، فإن النقود الجديدة لا تلبث أن تختفي من التداول، ويعود السبب في ذلك إنه طالما كانت للنوعين من النقود نفس القوة الشرائية تجعل الشخص مخيراً في أن يؤدي ما عليه من ديون أو تسديدات نقدية بالعملة الرديئة أو الجديدة، فإنه يعمل على تسديدها بالعملة الرديئة مستبقياً العملة الجديدة عنده بعيداً عن التداول في السوق ، ولا يستعمل في مدفوعاته سوى العملة الرديئة، ولنفس السبب يكون الدائن ملزماً بقبولها، ولو رفض الدائنون ذلك وطلبوا العملة الجديدة لعمل القانون بشكل عكسي، بحيث تصبح العملة الجديدة هي التي تطرد العملة الرديئة، وتستخدم النقود الجيدة عادة لأغراض عدة منها تسوية الديون الخارجية، الاكتناز والادخار والأغراض الصناعية التحويل إلى سبائك.
لا يهمني المزيد من العرض في هذه المسألة، لكن عليك صديقي القارئ، أن تعرف أن هذه الظاهرة شاعت حتى الحرب العالمية الأولى مع تردي الحالة الاقتصادية، وربما نعود لذلك القانون في وقت عرضنا لأمور اقتصادية رديئة تعيشها بعض البلاد، لكن ما يهمني هنا أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، ما يعني انعدام فرصة وجود بديل كفء أمام الثوار، لأن الحاكم المثار عليه، إما يكون قد طرد برداءته ورداءة رجاله الجيدين من السوق السياسي، أو نكل بهم أو أنه انحط بالمستوى الثقافي للدرجة التي تجعل العبارة الشهيرة تردد هي، هل عندك بديل؟ والأخطر أن من بين صفوف الثوار أنفسهم لا توجد تلك الرأس التي يمكننا القول بأريحية أنها مشعلة الثورة لتحل محل رأس النظام، فتختار نظام خاص بها اللهم فيما ندر، وحتى في تلك الحالة نعود للأزمة الثانية، وهي أنها تبقى في خلدها فكرة أن الشعب ثائر وقد يثور عليها فننكل به ونقمعه، أو أن أفكارها الثورية تكون قاسية كما فعل كاسترو ورفاقه في كوبا، ومن شابهه كثيرين في العديد من بلدان العالم الثالث الذين استبدوا بدعي الثورية والوطنية
.
المختصر المفيد مرة أخرى نعود لساكيا سانديفر الذي قال القادة الحقيقيون لا يصنعون أتباع لهم ولكنهم يصنعون مزيد من القادة.
ملحوظة صناعة القادة ليس بالضرورة في أروقة الحلم ولا النظام بل ربما بترك قادة يظهرون في صفوف المعارضة، ليكون بديل كفء، يقودون البلاد متى يصلوا سدة الحكم بأي من الطرق الديمقراطية.