منى أبوسنة
أبدأ بتوجيه التحية إلى د. خالد عبدالغفار وزير التعليم العالى والبحث العلمى على المجهود العظيم الذي يقوم به من أجل نهضة التعليم العالى والبحث العلمى، حتى تتمكن مصر من اللحاق بركب الحضارة العلمية والتكنولوجيا التي أفرزت الثورة الصناعية الرابعة، مستهدفا بذلك أن تصبح مصر شريكا أصيلا وندا في مسار الإبداع العلمى في عصر الكوكبية.
وعندما تابعت كلمته التي ألقاها في افتتاح المنتدى العالمى للتعليم العالى بتاريخ ٤/٤ /٢٠١٩ التي ركز فيها على مشروعات تأسيس جامعات دولية بشراكة عالمية مع جامعات الدول المتقدمة علميًّا وتكنولوجيًّا، بدا لى وكأن الجامعات الحكومية غائبة تماما عن استراتيجية النهوض تلك، وتساءلت ما إذا كنت محقة في تصورى هذا، فما هو السبب وراء استبعاد الجامعات الحكومية القائمة من تلك الاستراتيجية، هل استنفدت تلك الجامعات الغرض من وجودها وآن الأوان أن تُستبدل بمنظومة أخرى مغايرة لها؟، وإذا كان الجواب بالإيجاب، فماذا نفعل بتلك الجامعات؟، وهل في الإمكان إنقاذها من الانقراض برفع قدرتها على مواجهة التحديات العلمية والأكاديمية والبحثية التي تطرحها الجامعات البازغة؟.. في تقديرى أن هذا ممكن ولكن بشرط، وهو مواجهة السبب الجوهرى وراء تدهور وتراجع الجامعات الحكومية، وهذا السبب الجوهرى يكمن في الفساد الذي استشرى في المنظومة الجامعية الحكومية، وهذا الفساد على ضربين: الأول خاص بمنظومة الجامعة باعتبارها مؤسسة تعلمية، أما الضرب الثانى فيتمحور حول أستاذ الجامعة.
وأبدأ بتعريف معنى الفساد.. لغويا في أغلب لغات العالم، يعنى ممارسات تتنافى مع القيم الأخلاقية وتؤدى إلى انتشار التلوث المعنوى والمادى للفرد والمجتمع، مما ينتج عنه تغيير جذرى لما كان عليه الأفراد والمجتمع من صفات الالتزام بالأمانة والصدق.. وفلسفيا، الفساد يعنى طبقا لتعريفات الجرجانى: «زوال الصورة المادة بعد أن كانت حاصلة»، والصورة هي الماهية أو الهوية، أي الخصائص التي تميز الشىء عن غيره. وقد انقسم فلاسفة اليونان قبل أرسطو إلى فريقين: فريق قائل بمادة واحدة، وفريق قائل بمواد عدة يعتبر الفساد اختراق الأجزاء المؤسسة للجسم، فيقال إن الفساد تحول من جوهر أعلى إلى جوهر أدنى.
أما شعبيا، فيقال «السمكة تفسد من رأسها». ومعنى ذلك أن التغيير الجوهرى يبدأ من أعلى، أي من الرأس، ثم ينزلق إلى الأدنى فيصيب الجسم بأكمله. والسؤال الآن: كيف نربط بين كل هذه المعانى للفساد وبين ما هو حادث اليوم في المجال الأكاديمى بالجامعات المصرية؟. إذا اعتبرنا أن الجامعة هي رأس المجتمع، أي عقل المجتمع، فإن فسادها يعنى فساد المجتمع بجميع أفراده ومؤسساته.
ولكن السؤال هو: ما السمة الجوهرية للجامعة التي إذا تغيرت قيل الجامعة قد فسدت، أي حدث لها تحول من جوهر أعلى إلى جوهر أدنى؟ وما هذا الجوهر الأدنى؟.
الجامعة في أصل نشأتها هي مؤسسة للتعليم العالى تجمع فريقا من العلماء والباحثين المنشغلين بدراسة وتحليل الظواهر الطبيعية والإنسانية باستخدام المنهج العلمى العقلانى من جهة، وبث هذا المنهج العلمى العقلانى في عقول الطلاب من جهة أخرى، ومن هذه الزاوية فإن رسالة الجامعة الجوهرية هي بناء عقل المجتمع من أجل دفع هذا المجتمع نحو التقدم والانخراط في المسار الحضارى للبشرية. والسؤال الآن: هل تقوم الجامعة المصرية بأداء تلك الرسالة؟ الجواب: لا.
أما السبب فمردود إلى ظاهرتين متلازمتين، بزغتا وانتشرتا في المجال الأكاديمى من أكثر من ربع قرن هما: ظاهرة الإعارات إلى دول الخليج النفطية، وظاهرة تجارة «الكتاب الجامعى المقرر».
فمنذ أن أطلقت الدولة الزمام للإعارات بأن جعلت مدد الإعارة مفتوحة بعد أن كان الحد الأقصى للإعارة الواحدة أربع سنوات، وصلت إلى عشر سنوات وأكثر، بدعوى أن الإعارة تحقق هدفا قوميا، وفى أحيان أخرى يظل عضو هيئة التدريس بعد انقضاء ثلاث سنوات من حصوله على الدكتوراة في حالة إعارة دائمة إما تحت اسم «أستاذ زائر» لمتابعة الرسائل العلمية التي يشرف عليها الأستاذ في دولة الإعارة، أو في إعارة محدودة لمدة ثلاثة شهور للتدريس، وعندما يعود عضو هيئة التدريس إلى وطنه يكون قد تشبع بنظام تلك المؤسسات التي كون فيها ثروته، وهذا النظام يقوم على تحريم وتجريم أعمال الفكر الناقد فيما يقوم الأستاذ بتدرسه من مواد، سواء كانت في مجال العلوم الطبيعية أو الإنسانية، فيعمل على تطبيق هذا النظام على طلابه بعد عودته إلى جامعته، فيقوم بإرهاب كل من يجرؤ على التعبير عن رأى مخالف له. كما يكون هذا الأستاذ قد اعتاد الدخل المادى الوفير، فيسعى إلى الحفاظ على ذلك المستوى من الدخل.. كيف؟.. يبدأ عضو هيئة التدريس بعد عودته من الإعارة بتأسيس شبكة من الفساد الأكاديمى تضمه هو وباقى أعضاء هيئة التدريس والمعيدين والمدرسين المساعدين برعاية عميد الكلية في أغلب الأحيان، ومهمة تلك الشبكة هي تحويل الكلية بوجه عام، والقسم الذي يعمل به بوجه خاص، إلى سوق لتجارة ما يسمى رسميا «الكتاب الجامعى المقرر».
وقد أعطت الدولة الضوء الأخضر لتكوين شبكات الفساد الجامعى بأن جعلت تجارة الكتاب الجامعى أمرا قانونيا ومشروعا، من خلال مشروع دعم الكتاب الجامعى، فطبقا لهذا المشروع يبيع الأستاذ كتابه المقرر إلى الجامعة، أو بالأدق إلى وزارة التعليم العالى ويقبض الثمن، وبعد ذلك تتولى الجامعة بيع الكتاب للطلاب بعد دعمه بثمن زهيد. ولكن هذا المشروع لا يمنع الأستاذ من أن يبيع بنفسه لطلابه كتبا أخرى، يحدد هو بنفسه سعرها ويفرضه على الطلاب بشتى الحيل والإرهاب إذا اقتضى الأمر ذلك، هذا عن جرثومة الفساد الجامعى، وأعنى بذلك الكتاب الجامعى المقرر ونظام الإعارات.. فماذا عن أستاذ الجامعة؟!.
نقلا عن المصرى اليوم