بقلم :د.عبدالخالق حسين
بعد نشر مقالي ما قبل الأخير الموسوم: (حول التقارب العراقي - السعودي)، وكالعادة، جاءت العليقات متباينة، بين مؤيد لعلاقة متوازنة ومتكافئة مع السعودية، ومعارضة تطالب بمواصلة التوتر معها، ولأسباب معروفة أهمها عداء السعودية للنظام الديمقراطي في العراق، وإرسالها الإرهابيين...الخ. و هناك مقالات وتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي يطالبون الحكومة العراقية بشن الحروب على بعض دول الجوار، وحتى تحدي أمريكا، ومحاربتها، وكثيراً ما يستشهدون بفيتنام التي ألحقت الهزيمة بها !! أعتقد أن الذين يدقون طبول الحرب، وحتى مجابهة أمريكا وتحديها، يعيشون في خيالات وأحلام فنطازية، و الانفصام الكامل عن الواقع.
فعندما ندعم أي تحسن في علاقة العراق مع السعودية، أو إيران، أو أية دولة أخرى، لا حباً بهذه الدول أو أنها صارت تذوب في حب العراق!!، بل لأن العراق منهك وفي وضع مزري لا يسمح له أن يواصل سياسة صدام حسين في توتير العلاقات مع العالم، وشن الحروب الداخلية والخارجية،والتي أودت به إلى مزبلة التاريخ، وألحقت بالعراق الدمار الشامل.
يلقي البعض اللوم في ضعف العراق على الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2003، ويتهمون رجال السلطة بالضعف والهوان والخذلان، بل وحتى بالخيانة الوطنية. يتناسى هؤلاء أن ضعف الحكومة ناتج عن تفتت الشعب إلى مكونات وفئات سياسية متناحرة. فالحكومة الديمقراطية وخاصة الإئتلافية، أو كما يسمونها (حكومة المحاصصة)، هي بالضرورة أضعف من الحكومة الدكتاتورية لأسباب كثيرة. وهذا الموضوع يحتاج إلى مقال مستقل.
ولكن يكفي أن نذكر في هذه العجالة أنه خلال 50 سنة الماضية مر العراق بكوارث لا تقدر بسبب الأنظمة الدكتاتورية، وغرور وعجرفة صدام حسين، وسياسة التجهيل المتعمد، والإنهيار الحضاري، والحصار الاقتصادي الذي أذل الشعب، فالشعب العراقي اليوم منهك وممزق إلى فئات متناحرة، يعاني من عشرات الأمراض الاجتماعية والسياسية، إضافة إلى الأمراض البدنية والنفسية المتفشية، وتدهور المؤسسات الصحية والخدمية الأخرى... فهكذا شعب ليس بإمكانه شن الحروب على دول الجوار، ناهيك عن مواجهة الدولة العظمى (أمريكا) التي حررته من أسوأ نظام دكتاتوري همجي في التاريخ. يجب أن نعترف أنه لولا أمريكا لكان صدام و أبناؤه، وعشيرته مازالوا يمارسون هوايتهم المفضلة في نشر المقابر الجماعية، وتشريد العراقيين بالملايين إلى الشتات.
و هناك من يحرض الحشد الشعبي للتحرش بالقوات الأمريكية التي ساعدت العراق في تحرير ثلث مساحته من الاحتلال الداعشي المتوحش. وهذا التحريض بالتحرش بالقوات الأمريكية لا كرهاً بأمريكا والتواجد الأمريكي في العراق، بل لإعطاء ذريعة للقوات الأمريكية لضرب الحشد الشعبي، وبالتالي أن تسجل أمريكا الحشد في قائمة الإرهاب الدولي كما عملت بحق الحرس الثوري الإيراني.
يتحجج دعاة معاداة أمريكا بتاريخ أمريكا الحافل بالحروب، وتدخلها الفض في شؤون دول العالم، وخاصة في العالم الثالث، من بينها العراق الذي لم يسلم من هذه التدخلات الإجرامية وعلى رأسها الإنقلاب البعثي الدموي الأسود في 8 شباط عام 1963. وإذا قلنا لهم أن ذلك كان في عهد الحرب الباردة، والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، اتهموننا بأننا نوجد المبررات لجرائم أمريكا!.
كلا يا سادة، نحن لا نبرر لأمريكا جرائمها في الماضي، أو حتى الحاضر في عهد رئيسها دونالد ترامب. ولكن أمريكا التي ساعدت البعث على اغتصاب السلطة مرتين، لماذا لا نرحب بها عندما تريد إسقاط هذا الحكم الجائر؟ ففي هذه الحالة هناك التقاء مصالح، وإذا التقت مصلحتنا مع مصلحة أمريكا في إسقاط أشرس نظام دكتاتوري مستبد، فلماذا نفرط بهذه الفرصة؟ إذ كما تفيد الحكمة: (ليس في السياسة عداوات دائمة، ولا صداقات دائمة، بل مصالح دائمة).
وكما علق صديق: فالعداوة الدائمة وطلب الثأر لا تجر الا لمزيد من االخراب والدمار... ولنا في دول اوربا وأميركا واليابان والصين امثلة نافعة ..اذ دخلت حروبا جانبية و حربين عالميتين واحتلت بعضها سنين ثم هي الآن في علاقات ودية ومصالح مشتركة.
كذلك نشير إلى العلاقة الحميمة بين فيتنام الشيوعية وأمريكا الرأسمالية. نعم، نفس فيتنام الشيوعية التي الحقت الهزيمة بأمريكا في حربها الطويلة في السبعينات من القرن الماضي، ولكن بعد سنوات من تلك الحروب تحسنت العلاقة إلى درجة عالية بحيث استضافت هانوي اجتماع الرئيس ترامب بنظيره الكوري الشمالي كيم يونج اون. ولك ان تتذكر الحرب الرهيبة بين أمريكا وكلتا الدولتين. كما أصبحت فيتنام مركزا لتصنيع الكثير من منتجات الشركات الامريكية، حتي الحذاء الشهير الغالي الثمن "نايكي" عليه العلامة التجارية صنع في فيتنام. والكثير الكثير حتى أصبحت هانوي العاصمة الفيتنامية مركزا صناعيا هاما في جنوب شرق آسيا، وتستضيف الرئيس الأمريكي.
هل كان يعقل ان يأتي اليوم الذي نري فيه علاقة صداقة بعد حرب مدمرة في فيتنام بمقتل مئات الآلاف من الطرفين ان نري صناعات أمريكية في فيتنام؟! بعد عداوة رهيبة ببن زعيم فيتنام هوشي منه، ورؤساء أمريكا جونسون ونيكسون؟ هل قامت فيتنام بعمليات إرهابية في قلب أمريكا مثلما فعل العرب لليد التي امتدت لهم. سواء بالقضاء علي ابشع ديكتاتور "صدام حسين" او تحرير الكويت والمساهمة في القضاء علي داعش.
إن الذين يطالبون العراق بإدامة سياسة العداء وشن الحروب على دول المنطقة وعلى أمريكا، وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وإزالة إسرائيل من الخارطة، أنهم يدعون إلى دمار العراق وإبادة شعبه.
فالشعب العراقي قد أنهكته الحروب الصدامية العبثية، والحصار الاقتصادي ومن ثم العمليات الإرهابية، لذلك ليس بإمكان هكذا شعب منهك أن يعادي أية دولة، بل يجب أن يخطب ود الجميع، لأن هذا الشعب وبعد كل الكوارث لا بد وأن ينعم بسلام، ويستعيد عافيته ليلتئم جراحه، ويلملم وحدته الوطنية المفتتة، فهو مازال في غرفة الإنعاش، وليس بإمكانه غير السياسة السلمية، وهو مجبر في مد يد المصالحة والسلام مع الآخرين وليس مخيراً.
لذلك على الحكومة العراقية أن تكون حذرة من الأصوات التي تحرض على مواصلة سياسة صدام حسين في شن الحروب على دول الجوار، والتحرش بأمريكا ومعاداتها، وطرد قواتها من العراق، فهذه الأصوات لا تريد الخير للعراق، وحتى لو صدرت من شخصيات وطنية وعن نوايا حسنة في الظاهر، إلا إن هؤلاء لا يقدرون حجم المخاطر الكارثية التي ستقود إلى الدمار الشامل، وقد نال العراق من الدمار بما فيه الكفاية وأكثر، إذ كما تفيد الحكمة: (الطريق إلى جهنم معبد بالنوايا الحسنة).