بقلم: أيمن زكريا
أشعر وأنا في "مصر" هذه الأيام كأنني أشاهد على الهواء مباشرة مشاهد لدولة تسقط وتتهاوى، وهذه المشاهد ليست حصرية على التليفزيون المصري فقط، ولكنك يمكنك أن تراها وتشعر بها وأنت في أي مكان في "مصر".
- في الدول الناجحة، وظيفة السياسة تهيئة الظروف لنجاح الاقتصاد ونجاح الأمن وتطور التعليم والبحث العلمي، ولكن الآن في "مصر" ينهار الاقتصاد وينعدم الأمن، ولا يشغلنا مطلقًا التعليم والبحث العلمي. الجميع يقاتل حتى ينجح في السياسة، الجميع مستعد أن يحارب حتى آخر طوبة في "مصر" ليضمن كرسي في البرلمان.. أخشى أن نتحوَّل قريبًا لمجموعة فصائل سياسية بلا دولة!.
- الأجيال التي تعيش الآن في الوطن العربي قُدِّر لهم أن يكونوا شهود عيان على أخطر مرحلة تمر بها البلاد العربية عبر تاريخها، وأظن أن الأجيال القادمة ستدرس في مادة الجغرافيا خريطة مختلفة للوطن العربي، بها حدود مختلفة، وأبعاد مختلفة، ودول مختلفة.. ولكن السؤال الآن: هل الأجيال الحالية على قدر مسئولية هذه الفترة الخطيرة؟.. أظن الإجابة "لا".


- "القاهرة" في النظام السابق نالت النصيب الأكبر من الاستثمارات والتنمية وفرص العمل والصحة والتعليم والإعلام على حساب أهالي الأقاليم، وعلى رأسهم الصعيد.
- و"القاهرة" الآن تساهم أيضًا بالنصيب الأكبر من الإضرابات والاضطرابات والعنف والخلافات السياسية.. وأهالي الأقاليم، وعلى رأسهم الصعيد، يدفعون ثمن ما يحدث الآن أكثر من غيرهم.. ملايين من أهالي الصعيد الآن يعيشون في ظروف مادية وصحية وأمنية غاية في الخطورة، ولا ينشغل بهم أحد.. احذروا من انفجار قنبلة الصعيد والأقاليم.
- "مصر" تعاني من مشكلة طائفية كبرى وصلت لمراحل خطيرة، ولكن المسئولين في الدولة متوقفين عند التشخيص القديم لهذه المشكلة، وهي "أحداث فردية لا تؤثر على النسيج الواحد"، ومتوقفين أيضًا عند العلاج القديم لهذه المشكلة، وهو "تصريح لأحد المسئولين أن كل شئ زي الفل" بالإضافة لصورة رجل دين مسلم ورجل دين مسيحي نازلين بوس وأحضان وابتسامات".. وأنا أحب أن أقول للمسئولين: "فوقوا"، فهذا المرض الطائفي الشديد الخطورة يقترب من مراحلة النهائية، وأصبحت أعراضه الخطيرة واضحة وضوح الشمس، وأن وسائل التشخيص التي تعتمدون عليها بدائية جدًا، والعلاج الذي تستخدموه أيضًا بدائي جدًا.. لا وقت أبدًا للمراوغة والهروب والتأجيل بمنتهى الصراحة، لو مش قد المواجهة- وانتوا فعلا مش قدها- ارحلوا فورًا.
- لا يمر شهر إلا ونسمع عن هدم أو حرق كنيسة، ويخرج علينا المسئولون بمنتهى الثقة والصراحة، ويعلنون بدون أي خجل أو استغراب أن بناء الكنيسة أو صوت الصلاة أو منظر الصليب فوق الكنيسة استفز مشاعر بعض المسلمين المرهفة والرقيقة ففعلوا ما فعلوا!!.

وأنا أتسائل: إذا كانت صلاة المسيحيين تستفز مشاعر المسلمين، فما بالكم بانحراف المسيحيين؟؟ إذا كانت صلاة المسيحيين تستفز مشاعر المسلمين، فما بالكم بغضب المسيحيين، وهتافهم وانفعالهم؟؟.. ولذلك مستغربين ليه من اللي حصل في "ماسبيرو"؟
- المسيحيون في مناطق كثيرة في "مصر"، وخاصة في الأقاليم، لم يبقوا مواطنين درجة تانية أو تالتة فقط، بل أن المسيحي مطلوب منه أن يبقى كائنًا ذو مواصفات خاصة: لا يغضب، لا ينفعل، لا يُخطي، يصبر ويُهان ويحتمل، يتقبل الظلم والتمييز بمنتهى الهدوء والرضا، وألا يطالب بحقوقه أو يكون عنده رد فعل أو انفعال أو حتى نخوة، وإلا.. هتتهرسوا تحت الدبابات، وتنفجر أحشائكم، واسالوا أرض "ماسبيرو".
- أطالب الأحزاب والقوى السياسية وشباب 25 يناير، قبل أن تنادوا برفع قانون الطوارئ حسب الإعلان الدستوري، أود أن ألفت نظركم إلى قانون طوارئ أشد خطورة، يُنفَّذ فقط على المسيحيين في "مصر"، وهذا القانون لا ينفذه أمن الدولة أو الأمن الوطني، ولكن ينفِّذه للأسف المتعصبون المسلمون؛ فلو أخطأ أحد المسيحيين وتعدَّى على أحد المسلمين، وتجاوز الحدود، وأٌتهم بعلاقة مع إحدى المسلمات، أو حتى حب يبني كنيسة- فيا ويله وويل أهله وويل اللي يعرفوه.. أقسى وأصعب أنواع قانون الطوارئ يُنفَّذ في هذه الحالة.. غضب جماعي، وهياج عارم من المسلمين، وعقاب جماعي للمسيحيين، وضرب، وحرق، واعتداء، وسلب، ونهب، وفي الآخر بعد كل ده يُحكم على المخطئ وأهله (لو كانوا لسه عايشين) بالطرد من البلد!!، وحادثة "جرجس بارومي" مثال على ذلك؛ فتم حرق أكثر من (60) منزلًا ومحل تجارة بعد اتهام "جرجس بارومي" بالاعتداء على إحدى المسلمات، وما حدث في "صول" أيضًا مثال آخر لذلك.. فأرجوكم، ارفعوا قانون الطوارئ عن المسيحيين..


- بمنتهى الصراحة، ومن الآخر، لازم نعترف أن العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في "مصر" بصفة عامة أصبحت سيئة- هذا لا ينفي وجود علاقات فردية قوية ورائعة- وهذا هو العادي، وهذه هي طبيعة العلاقات في "مصر" الآن، فالعلاقة بين الشعب والحكومة سيئة، وبين المجلس العسكرى والقوى السياسية سيئة، وبين الموظف ومديره سيئة، وبين الطالب وأستاذه سيئة.. فيجب أن نعترف بهذا ونعالج المشكلة حسب حجمها الحقيقي، وكفى هروبًا ومراوغة، وكفى اتهامًا لكل من يشير إلى مشاكل الأقباط بالعمالة والخيانة.
- مهما كانت الصورة قاتمة، ومهما كانت المعطيات تنذر بعواقب خطيرة، فيبقى الأمل فقط من داخل "مصر".. عقلاء المسيحيين يجب عليهم الاستمرار في مطالبهم الشرعية بكل نضج وذكاء وإصرار، وعقلاء المسلمين- وهم بالملايين- عليهم تقدير خطورة الموقف وتقدير وتفهم أحوال ومشاكل المسيحيين، ومحاربة تيار التعصب الجارف بالاعتدال والسماحة والوسطية.
- نحن في حاجة لتكاتف وتلاحم ملايين المسيحيين والمسلمين المعتدلين لتكوين سد عالي جديد يحجز ويحمي "مصر" من تيار وفيضان التعصب والطائفية..