فاروق عطية
كان وضع الأقباط سيئًا للغاية في نهاية عصر الأيوبيين وبداية عصر المماليك البحرية لأسباب عديدة أهمها، سوط الحروب الصليبية الذي لم يلهب ظهورالمسلمين بقدر ما أصاب الأقباط المسيحيين بشكل مباشر وغير مباشر. فموجة اضطهاد الأقباط كانت عميقة وكبيرة وطويلة، بدأت منذ عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي وانحسرت شيئًا ما في نهايته لترتفع مرة أخرى في العصر الأيوبي وازداد سعيرها في العصر المملوكي بسبب الحروب الصليبية، فعند ما رأى المسلمون في الشرق جحافل الجيوش الأوروبية حاملة الصليب لم يفرقوا بين صليب وآخر وأعلنوا الجهاد الديني على كل المسيحيين في مصر وخارجها، إضافة إلى أساليب الأوروبيين وخاصة اليهود في استنفار الحكام المصريين على الأقباط تهديدًا لهم وانتقامًا منهم كي يقفوا في صفهم ضد المسلمين، بينما حسب الأقباط المسيحيين المسألة وحسموها ليقفوا في صف مواطنيهم وضد الأجانب الذين لا يعرفونهم وبينهم نار مجمع خلقيدونية 451م، وظلوا كاظمين غيظهم في انتظارً انفراج الأزمة، وإن كان قد كلفهم هذا الشيء الكثير من قتل وهدم منازل وكنائس ومصادرة ممتلكات وسبي نساء وبيع البعض في سوق النخاسة.. الخ، ثم جاء المماليك فلم يأبهوا بهذه الطبقة القليلة العدد بل كانوا يعاملونهم كجزء من الأمة نظير ما كانوا يقدمونه من خدمات كبيرة كتقدير الضرائب وجمعها بكل إخلاص وأمانة، وفي نفس الوقت كان الحكام المماليك قادرين على ابتزاز أموال القبط دون أن يخشوا منهم مقاومة أو ثورة مضادة، فرتبوا مصير الأقباط حسب أهوائهم. وقد استطاع بعض الكتبة الأقباط أن يشغلوا بعض الوظائف الكبرى في الدولة لمهارتهم وعلمهم وأمانتهم في العمل كونهم كانوا يشكلون الطبقة المتعلمة في المجتمع، مما أدى إلى تمتعهم بالجاه والسلطان والثروة الواسعة، إلا أن الحاقدين من عامة الشعب كانوا يظهرون غضبهم بمجرد رؤيتهم قبطيًا في مركز قيادي، بمبدأ لا سيادة لذميّ على مسلم. وبالرغم من ذلك استطاع القبطي أن يعيش ويتقدم مع شعوره الدائم بأنه غير مرغوب فيه، وصاروا يدربون بعضهم البعض على العلوم المطلوبة، ليظلوا على داريتهم واتقانهم لمهنتهم.
أتسم عهد السلاطين المماليك بالظلم والخيانة والحقد، وانتشار الجهل والفسق بين المماليك بعضهم وبعض، وبينهم وبين رعاياهم، فهم كانوا من سلالات مختلفة ومستويات متباينة لا تجمعهم أية وشائج أو علاقات، ومن ثم كان استمرار وجودهم مرهونًا بهذه الحيل من أجل البقاء، أما أهل مصر بشقيها مسلمين وأقباط فهم الذين دفعوا الثمن. ولما لم يكن للمماليك ظهير يحميهم كتراث أو أهل أو صحب ظنوا أن العنف والقسوة إنما هي التي توقع خشيتهم في نفوس المصريين وتثبت أقدامهم. وبسبب السياسة القاسية هذه وتعطيل الأعمال لاسيما الزراعة لأن معظم الأراضي وأجودها كانت قد نزعت من يد أصحابها وأعطيت للأمراء، فأغلقوا أبواب الرزق أمام العامة، فكثر الفقر وانتشرت الجريمة وزاد عدد الأوباش والحرافيش خصوصا في مدينة القاهرة.
أحسّ المماليك في أول عهدهم بعلم الأقباط وأمانتهم فعينوهم في كبرى الوظائف، وكان أبرزهم شرف الدين أبو القاسم هبة الله بن صاعد، الذي كان قبطيا وأسلم، عمل في خدمة الأمير عز الدين أيبك الذي حين تسلطن ولقب يالملك المعز ولّاه الوزارة فتمكن من الدولة تمكنا زائدا فأظهر خسته ودناءة أصله وأحدث مظالم كثيرة بين الناس خاصة الأقباط، وحصّل منهم الجزية مضاعغة وقرر على التُجّار وزوي اليسار منهم أموالا يدفعونها سنويا واستحدث ضرائبا ومكوسا علي الأملاك وعلى الخيل والحمير والبغال وسائر الحيوانات وعلي العبيد والإماء وسائر المبيعات ضمنها الخمور والحشيش والمزر وبيوت الدعارة أسماها (بالحقوق السلطانية)، وكان يخرج بنفسه لتحصيل الأموال، وعندما يغيب ينوب عنه في الوزارة مساعد له يدعي زين الدين يعقوب. وعندما قتل أيبك بدسيسة من شجرة الدر وتسلطن إبنه الملك المنصور، وكان الأمراء قد سئمت نفوسهم من الأسعد شرف الدين فسعوا ضده لدي الملك واتهموه بأنه يستخف بالسلطان لصغر سنه، فقبض عليه وحبس في قلعة الجبل وصودرت كل أملاكه وأمواله ثم خنق ولُف في نخ ودفن.
في عام 1265م أيام السلطان بيبرس، والذي وجد الخزينة خاوية نتيجة الحروب ضد الصليبيين. وكان في حاجة إلى سبعين ألف دينار كما يروى لنا المؤرخ "الفضل بن أبي الفضائل" في كتابه "تاريخ مفضل أبي الفضائل ج 12" لما قدم السلطان من الشام، أمر بجمع النصارى واليهود، فمُسكوا عن بكرة أبيهم وأوقدت لهم النار بالأحطاب في جورة كانت بالقلعة التي هي دار للملك السعيد، وأراد إحراقهم، فاشتراهم الحبيس الراهب بخمسمائة ألف دينار يقوم بدفعها في كل سنة بخمسين ألف دينار، وكان هذا الحبيس في مبدأ أمره كاتبًا في صناعة الإنشاء، ثم ترهب وانقطع في جبل حلوان، ويقال أنه وجد في مغارة مالًا كان للحاكم العبيدي أحد الخلفاء المصريين، فلما حصل له هذا المال وفد به الفقراء والصعاليك من سائر الأديان، فاتصل خبره بالسلطان الملك الظاهر، فأحضره وطلب منه المال فقال له: إن طلب منى السلطان شيئًا أدفعه من يدي، ولكنه يصل إليك من جهة من تصادره وهو لا يقدر على ما يطلب منه فاني أعطيه وأساعده على خلاص نفسه منك، فلا تعجل، فلما كانت هذه الواقعة ضمنهم من السلطان بذلك المال المقرر على النصارى. وكان يدخل الحبوس ويطلق فيها من كان عليه دين وهو عاجز عن وفائه، ثقيل كان أو خفيف، وكذلك لما طلب من أهل الصعيد المقرر من أهل الذمة، سافر إليهم ودفع عنهم ما طلب منهم، وكذلك سافر إلى الإسكندرية فرأى أهلها منه ما هالهم. وقد أحصى ما وصل إلى بيت المال في جهة على تلك الوجوه المقدم ذكرها في مدة سنتين فكان ستمائة ألف دينارًا مصريًا خارجًا عما كان يعطيه من يده سرا للناس وما خلص به من الحبوس. ثم ما لبث الظاهر بيبرس أن أقال جميع الأقباط الذين كانوا يعملون في ديوان الحرب وأحل المسلمين محلهم، وفي نفس يوم تنفيذ هذا القرار هدم دير الخندق الكائن خارج القاهرة بالقرب من باب الفتوح ولم يترك فيه حجر على حجر
أما في عهد الملك المنصور قلاوون 1284 م. ألغيت الزيادة في الضرائب المفروضة على الأقباط وساوى بينهم وبين المسلمين في ذلك وأعادهم إلى وظائفهم، إلا أنه فتح أذنيه لضعاف النفوس من المسلمين، وعاد إلى العنف مع الأقباط؛ فنجده يدفن قبطيًا حيًا لتزوجه من امرأة مسلمة، ويأمر بجزع أنفها. في سنة 682هـ تمرد بعض المماليك عليه، فغضب غضبًا شديدًا أعمى بصيرته وأفقده صوابه، ونشر الذعر بين المصريين جميعًا دون تفريق بين مسلم وقبطي، ونال الشعب منه الأذي الكثير، وأعمل السيف فيهم ثلاث أيام متوالية، حتي غصت الشوارع والطرقات بجثث القتلي رجال ونساء وأطفال، تقدم إليه علماء المسلمين طالبين الرحمة بالرعية، فثاب إلى رشده وقرر أن يكفّر عن أخطائه، فبنى التكايا والأسبلة والمستشفيات. وإضافة إلى ما ظنه ثوابًا أن اضطهد الأقباط واشتد عليهم، وعاد إلى الأمر بمنع ركوبهم الخيل، وألزمهم بركوب الحمير وشد الزنانير وألا يحدّث نصراني مسلمًا وهو راكب دابته، ولا يلبسون ثيابًا مصقولة، وظل على ذلك حتى ولاية ابنه الأشرف الذي زاد من اضطهادهم، إلا أنه دُهِشَ من صمودهم وثباتهم، حتى أنهم وشموا أيديهم وأذرعهم بعلامة الصليب المقدس، وأصبحت هذه العادة متبعة إلى اليوم.
لم يجد قلاوون أمامه إلا أن يعيد الأقباط إلى وظائفهم بعد أن توقفت حركة العمل في الدواوين، وكذلك سار على نهجه ابنه الأشرف. فظن النصارى أن أيام ذلهم قد انقضت فعادوا لركوب الخيل والبغال وارتدوا أفخر الثياب، وكان الكثير منهم كتابا عند الأمراء ، لهم الكلمة المسموعة عندهم لمحافظتهم علي اموالهم وضبط حساباتهم وتسيير أعمالهم على أحسن حال، فداخل بعضهم الغرور معتمدين على جاه مخدوميهم وحمايتهم، فدفعتهم هذه الأوهام إلى الترفع والتعاظم والتأنق في المعيشة والملبس، فساء هذا بعض المتعصبين الذين يرتاحون لإذلال النصارى، فصاروا يهزأون بهم مما جرّأ العامة على إهانتهم والاستخفاف بهم. كان هناك كاتبا قبطيا يدعى عين الغزال لدي أحد الأمراء صادف يوما وهو ذاهب لدار مخدومه سمسارا كان مطلوبا منه مبلغا من المال ثمن غلّة اشتراها من شون الأمير، طالبه عين الغزال بما عليه، فاعتذر وطلب مهلة أيام فلم يقبل منه وأصرّ أن يدفع له ما عليه أو يذهب معه إلى دار الأمير، وأمر غلمانه أن يقبضوا عليه ويأخذوه رغم عنه. فاجتمع الناس وتوسطوا له وطلبوا من الكاتب أن يخلي سبيله فلم يوافق، فتكاثروا عليه وأوقعوه عن حماره وأطلقوا السمسار وصاروا يصفعونه ويضربونه، وإذ كان قريبا من دار أستاذه أرسل أحد غلمانه إليه ليأتيه بمن ينجده، فأتته جماعة من غلمان الأمير وأنقذوه من أيديهم وهو فى حالة سيئة، وهموا بالقبض علي الجناة الذين ولوا الأدبار مستغيثين بالسلطان، مسرعين لقلعة الجبل حيث كان السلطان الذي سمع صيحاتهم وضجيجهم فأرسل من يستطلع الأمر، فعّرفوه بما جرى وشنعوا في القول متهمين النصارى بالتعاظم والقسوة وسوء معاملة المسلمين واشتكوا من حماية الأمراء لهم، فهال ذلك السلطان وخشي سوء العاقبة فغضب ولم يتدبر من حيلة لإطفاء هذه الفتنة إلا بإهلاك الكتاب النصاري، وأمر بجمع كتاب الأمراء وإحضارهم بين يديه ليقتلهم، فتشفع لديه الأمير بيدرا النائب وأمير آخر إسمه سنجر الشجاعي واستعطفاه وما زالا به حتي عفا عنهم بشرط ألا يستخدم أي من الأمراء ذميا، وأن يعرضوا عليه الإسلام فمن امتنع تقطع رأسه ومن أسلم استبقوه، ونودي بذلك في القاهرة ومصر القديمة. انتهز رعاع المسلمين ومن كان في نفسه حاجة من جهة النصارى هذه الفرصة المناسبة فهجموا على بيوتهم ونهبوها وقتلو الكثير منهم وسبوا النساء والأطفال. كما غضب السلطان علي كتاب ديوانه النصاري وأمر بجمعهم وإحراقهم قائلا لا أريد أن يكوا في دولتي ديوانا نصرانيا. فتقدم الأمير بيدرا النائب ليشفع فيهم ومازال بالسلطان حتي سمح بأن من يسلم يستمر في خدمته ومن امتنع يقتل، فآثروا الاستسلام على القتل وبذلك نجوا بحياتهم، أمر السلطان بالخُلع عليهم وإبقائهم في وظائفهم، إلا أنهم استغلوا إسلامهم في الانتقام مما حل بهم وببقية الأقباط، فيقول المقريزي: "صار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزًا يبدي من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره". ولكن لم تمنع هذه الاعتبارات المسلمين من استعمال العنف في معاملة أهل الذمة، وكانوا في هذا إنما ينتقمون لأنفسهم من الأقباط كلما غزا بعض القراصنة الأوربيين سواحلهم، رغم ذلك استمر الغوغاء في هجومهم على بيوت النصارى واليهود ونهبها، ولما رأي الأمير بيدرا ما كان من أمرهم وما ارتكبوه من فظائع أوعز إلى والي القاهرة أن يمنع الناس من تلك الجرائم، فنادى الوالي من نَهَبَ بيت نصراني شُنِقَ، وقبض على طائفة من العامة وضرب بعضهم وشنق بعضهم حتى كفوا عن النهب بعد ما نهبوا كنيسة المعلقة بمصر وقتلوا بعض من كان بها.