د. كمال زاخر
تُحسب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية واحدة من أقدم الكنائس التقليدية أى التى تتبنى نسق التواتر الجيلى، والذى يمتد فى جذوره ليلتحم بالكنيسة الأولى، لذلك تسمى كنيسة آبائية، يضفى هذا عليها صفة الأصالة، فيما تعتقد وفيما تمارس، ويضمن لها قدرا أكبر من الاستقرار، وهى فى الوقت عينه كائن حى إذ تتكون من بشر حملوا هذه العقائد واتفقوا على منظومة الممارسات التى تترجمها فى عباداتهم الموقعة على أيام السنة، لذلك تحسب كنيسة الشعب. وهى بهذا تسعى لأن تجمع بين الأصالة والمعاصرة، لتصل برسالتها، وهى إعلان محبة الله للبشر فيما تسميه تدبير الخلاص، بتكريس المحبة التى تشكل علاقة الإنسان بكل ما من حوله.
وفى سعيها هذا تتوقف مع إشكالياتها عبر الزمن، تراجع واقعها على ايمانها ورسالتها، تصحح وتراكم وتضبط المسار، ومن هنا جاءت المجامع المسكونية، وسعى التقارب فى دوائر متتالية تبدأ بالكنائس الأخرى وتنتهى إلى كل العالم مرورا بالأديان المختلفة، فى مواجهة تيارات الكراهية والفرقة والتفكيك.
على أن الواقع المعيش يقفز بنا بعيداً عن هذه الصورة الطوباوية المثالية، فالكنيسة تعيش وسط عالم يموج بالصراعات والأزمات بما يمثل أعباء ثقيلة عليها، ويحملها مسئولية مضاعفة فى أن تخرج إليه بما تملك من منظومة قيم، تأسست عليها، كمنارة وسط الأمواج حتى حُسبت سفينة نوح كما تقول أدبياتها. تأكيدا لقول المسيح: أنا فقد اتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل.
واحدة من التحديات العاصفة التطور المعلوماتى الذى تمثله الثورة الرقمية، وما انتجته من قفزات فى وسائل التواصل ونقل المعرفة، بما يخرج عن الملاحقة والحظر والرقابة، بتنوعاتها، واختلط معها ما هو صحيح بما هو غير صحيح، مع امتلاكها قدرة فائقة على التأثير، وصارت آليات ومؤسسات التنشئة وتشكيل الذهنية العامة، والكنيسة واحدة منها، أمام تحد يوجب عليها تجديد منهجها وخطابها بل وأدواتها فى تعاطيها مع أجيال جديدة تعصف بها الأسئلة وتمزقها موجات عاتية.
فى ضوء هذا نتوقف كثيراً أمام ما أعلنته الكنيسة عبر مجمع اساقفتها من تبنيها توجه الانتقال من الفرد إلى المؤسسة فى تدبير إدارتها، فى تأكيد ادراكها المتغيرات التى تغشى العالم حولها، فلم تعد معطيات المجتمع الأبوى، أو حتى مجتمع ما بعد الثورة الصناعية، قادرة على التعاطى مع احتياجات أجيال يتشكل عقلها وتوجهاتها بل قناعاتها بما انتجته ثورة المعلومات والتواصل.
ومن يقترب من الكنيسة، الكيان، يجد أن الأمر لا يتوقف فقط عند الإدارة بل يطول أيضاً التعليم والرهبنة، وكلاهما له ضوابط ومحددات وثمة ارتباط بين ثلاثتهم، والتحديث فيهم لا يعنى الانقلاب على هذه الضوابط والمحددات بل إعادة فحصها وتخليصها مما تسلل إليها واستقر فيها فى أزمنة التراجع والانقطاع التاريخية بتعدد اسبابها، والمعيار الحاكم لهذا هو ما تملكه الكنيسة من مرجعيات موثقة كتابية وآبائية، فى ضوء تحقيق هدفها الأول إعلان رسالة الخلاص والفرح لحساب الإنسان.
والانتقال من الفرد للمؤسسة صار ضرورة، وتحكمه قواعد انتهت إليها علوم الإدارة الحديثة فيما يسمى الحوكمة وهى إعادة إنتاج للمحاور التى تقوم عليها الإدارة من تخطيط وتنفيذ وهيكل تنظيمى ورقابة وتقييم وتقويم، لضمان تحقيق الأهداف التى تسعى المؤسسة أو المنظمة إلى تحقيقها، وهى بحسب تعريف الدراسات ذات الصلة: مجموعة من القواعد والقوانين والمعايير والإجراءات التى تجرى بموجبها إدارة المنظمات، والرقابة الفاعلة عليها، ويقع على عاتقها مسئولية تنظيم العلاقة بين الأطراف الفاعلة فى المؤسسة، وأصحاب المصالح، وتساعد القائمين على تحديد توجه وأداء المنظمة، ويمكن من خلالها حماية مصالح أفرادها.
ونجد إرهاصات كتابية تؤكد أهمية الإدارة فى عدة مواضع؛ حين انتبه النبى موسى إلى نصيحة نسيبه، وكان كاهناً وثنياً، بشأن تنظيم الفصل فى شكاوى الشعب بعد الخروج، وإرسائه لأول هرم ادارى يوثقه الكتاب المقدس بتقسيم القضايا بحسب اهميتها وتعيين رؤساء خمسين ورؤساء مئات للفصل فيها وتصعيد الأكثر خطورة وعمومية له للفصل فيها، وحين اختار المسيح من تابعيه نفرا شكل منهم أول مجلس ادارة لشئون دعوته، وحين أجرى معجزة اشباع الجموع الذين خرجوا وراءه، وكيف طلب الى تلاميذه تقسيمهم الى مجموعات صغيرة واداروا الأمر بنظام وترتيب، وهو ما أشار اليه بولس الرسول: فوضع الله اناسا فى الكنيسة: اولا رسلا، ثانيا انبياء، ثالثا معلمين، ثم قوات، وبعد ذلك مواهب شفاء، واعوانا، وتدابير، وانواع ألسنة. ألعل الجميع رسل؟ العل الجميع انبياء؟ ألعل الجميع معلمون؟ العل الجميع اصحاب قوات؟ ألعل للجميع مواهب شفاء؟ العل الجميع يتكلمون بالسنة؟ ألعل الجميع يترجمون؟.
والانتقال من الفرد إلى المؤسسة ليس قراراً فوقياً، ولا يرتبط بأشخاص القيادة، يبقى بوجودهم ويذهب بذهابهم، ولا يحتمل تحويله إلى موضوع يختلف عليه ويوظف فى معركة لا محل لها، ولا يمكن تحققه إلا بعودة الكنيسة لتكوينها الصحيح الذى يقوم على جناحى الإكليروس والمدنيين، أو بحسب المصطلح الكنسى الأراخنة، وظنى أن جل أزمات النصف الأخير من القرن العشرين كانت جراء استئثار أحدهما بمقاليد الإدارة وإقصاء الجناح الآخر.
والمؤسسية تستوجب توافر استراتيجية واضحة ونظام منضبط موثق، تتحدد فيه الأدوار والمسئوليات والسلطات والتكامل والرقابة والتوازن، الإيمان بمبدأ المشاركة الحقيقية، والخضوع لسيادة القانون المنظم للحراك الكنسى، واعتماد الشفافية وتوفير المعلومات، والقبول المتبادل بين مكونات الكنيسة بعيداً عن التسلط والخضوع الشخصى.
ولعل هذا يطرح عدة قضايا تحتاج لإعادة فحص، لعل أهمها قضية اختيار الأساقفة، الضوابط والمواصفات والسلطات، وقضية الرهبنة والحياة الديرية باعتبارها المصدر الوحيد حتى الآن لاختيار الأساقفة، المناخ والتكوين والتلمذة والإعداد، وهل فى كليهما ـ الأساقفة والأديرة ـ تصلح الأنساق السائدة لمواجهة احتياجات الكنيسة فى عالم متغير تحكمه وتحركه المعلومة والمعرفة وشيوعهما فى كل يد بفعل تقنيات الثورة الرقمية؟.
ومن يتابع القواعد المستقرة فى ترتيب الهرم الإدارى الكنسى يكتشف أنه محاكاة لنظيره فى الامبراطورية الرومانية فمقابل المقاطعة كانت الايبارشية، ونظير الأمير كان الأسقف، ومقابل الكرسى الإمبراطورى كان الكرسى البابوى، وتمتد المحاكاة الى الزى الإكليروسى المنقول عن البلاط الملكى آنذاك، وهى كلها أمور قابلة للمراجعة والنظر فيها بموضوعية وبما يدعم هدف وعمل الكنيسة اليوم.
نقلا عن الأهرام