منى أبوسنة
فى إطار رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى، فإنه يلزم التعرف على الفكر السائد فى القارة الإفريقية والذى يشكل ثقافات المجتمعات الإفريقية ويتحكم فيها.
وهذا المقال يستند إلى خبرات شخصية تنطلق من محاولات لبناء معابر حضارية بين إفريقيا والعالم الغربى فى إطار الكوكبية التى تعنى وحدة الحضارة الإنسانية وتعدد ثقافاتها، وذلك من خلال تدعيم ثقافة التنوير فى المجتمعات الإفريقية. وأنا أعنى بـ«ثقافة التنوير» العقلانية التى دعا إليها كانط فى تعريفه الشهير للتنوير فى مقاله المعنون «جواب عن سؤال: ما التنوير؟».
التنوير يعنى خروج الإنسان من حالة اللا نضج التى فرضها على نفسه، ليس لعلة فى عقله ولكن بسبب الكسل العقلى والجبن. وشعار التنوير هو كن جريئا فى إعمال عقلك دون معونة من الآخرين. والعقلانية، فى رأى كانط، تدور حول فكرة سلطان العقل. وسلطان العقل يشترط استبعاد الوصاية على العقل لأن الوصاية تعنى أن الإنسان عاجز عن إعمال عقله من غير توجيه الآخرين.
وفى تقديرى أن الممارسة الحرة للعقل بدون توجيه من أية قوة خارجية، تخلق ثقافة التنوير فى مواجهة الدوجماطيقية والسلفية والتفكير الأسطورى.
إن خبراتى فى هذا المقال مطروحة من خلال الجمعية الدولية الفلسفية الأفروآسيوية التى أسهمت فى تأسيسها مع د. مراد وهبة 1978.
وقد ارتأيت التركيز على طرح آراء بعض الفلاسفة البارزين من إفريقيا، وفى مقدمتهم رائدا الفلسفة الإفريقية أيمى سيزار وليوبولد سنجور، ومن الفلاسفة الجدد أوديرا أوروكا (كنيا) بولين هونتونجى (بنين) وأولو سوديبو (نيجيريا) وهما ممثلان للفكر الفلسفى المعاصر فى إفريقيا.
إن بولين هونتونجى معروف عنه أنه فيلسوف إفريقيا. ومع أنه ناقد لأوديرا أوروكا فى فلسفته المسماة «فلسفة الحكماء» إلا أنه يوافق أوروكا فى آرائه إلى حد ما، ولهذا فإن أوروكا ينظر إليه على أنه ناقد لفلسفته.
إن هونتونجى يساوى بين الفلسفة والعلم. فالفلسفة عنده على خلاف أوروكا، ليست مؤسسة على الحدس أو مكافئة للإيمان الدينى ولكنها نشاط معرفى يتبع قوانين معينة وقواعد منهجية.
وفى بحثه المقدم إلى المؤتمر الفلسفى الأفروآسيوى الثانى فى نيروبى (1981) والمعنون «الفلسفة والتراث» يميز هونتونجى بين ما يسميه التراث من الخارج والتراث من الداخل. الأول يمثله علماء الانثروبولوجيا فى أوروبا وعلى الأخص ليفى بريل وليفى شتروس ومالينوفسكى على الرغم من تباينهم. وهذا التيار الذى يسميه هونتونجى «الفلسفة الإثنية» يفسر المجتمعات غير الغربية بعامل واحد، وأعنى به رؤيتهم الكونية الجماعية التى ترتد إلى إدوارد تيلر فى كتابه «أصول الثقافة» (1871) حيث يدعو فيه إلى المذهب الحيوى. والتراث من الخارج يحذف الثقافات غير الغربية من الحضارة الإنسانية بدعوى أنها أسطورية ولا عقلانية وغير منطقية، وتحفظ هونتونجى على هذا التيار هو أن هذا التيار لا يتساءل عن تقبل العقلانية فى المعتقدات التقليدية للمجتمعات غير الغربية، والإفريقية على وجه الخصوص.
ومع ذلك فإن هونتونجى لا يقول شيئا عن الطبيعة المتميزة لهذه العقلانية. أما تيار التراث من الداخل فيتزعمه إيمى سيزار وليو بولد سنجور وهذان مرفوضان من قبل هونتونجى بدعوى أن هذا التيار منحاز إلى اللاعقلانية أو الخارج عن العقلانية ومؤسس على التمييز بين الغرب والشرق بخصوص مفهوم العقل.
ومع ذلك فإن نقد هونتونجى للثقافة التقليدية ليس نقدا فلسفيا بل نقدا للممارسات الاجتماعية لأنه لا يتساءل عن الرؤية الكونية لنسق القيم والتى هى أساس هذه الممارسات. أما أنا فأرى أن مجاوزة تراث الماضى عبر عقل ناقد يجب أن تكون موجهة برؤية مستقبلية تتجاوز الوضع القائم، وهذا لا نجده عند التقييم النقدى لهونتونجى إزاء الفكر التراثى والثقافى الإفريقى.
وفى نفس الاتجاه يسير أولو سوديبو مع اختلاف واحد هو دفاعه الواضح عن عقلانية إفريقية «متميزة» و«خاصة» ويبدو أن سوديبو قد عثر على تبرير عقلانى لما يسميه سنجور «علم الزنجية الإفريقية» فى مواجهة علم الأوروبى الأبيض من حيث إن الزنجية الإفريقية ذاتية وحسية، أى أنها تستند إلى الحواس وليس إلى التحليل العقلى، ويعلق سنجور قائلا:
«من الواضح أن ثمة حضارة أوروبية وثمة حضارة زنجية إفريقية. وإن من لم يتطرق إلى تفسير الفارق وسبب هذا الفارق فإنه لا يفسر شيئا ويترك المشكلة بلا حل. ويزعم سنجور أن هذا العقل الزنجى الإفريقى أقرب إلى اللفظ اليونانى LOGOS من اللفظ اللاتينى RATIO لأن اللوغوس قبل أرسطو كان يعنى العقل والكلمة، ويخلص سوديبو إلى أن العقل الأوروبى تحليلى واستدلالى بالمنفعة أما العقل الزنجى الإفريقى فهو حدسى بالمشاركة.
إن سوديبو مثل أوروكا يمجد فلسفة الحكماء وحكماء إفريقيا وينحاز بشدة إلى الطب الإفريقى والأطباء الإفريقيين ويدعو إلى احترام بلا حدود للأطباء الإفريقيين التقليديين لأنهم متجذرون فى التراث الثقافى.
والآن أثير السؤال الآتى: إلى أى مدى تتسق دعاوى فلاسفة إفريقيا مع عقلانية التنوير؟ ويلزم من هذا السؤال سؤال آخر على النحو التالى فى إطار ظاهرة الكوكبية التى تعنى وحدة الحضارة الإنسانية مع تعدد الثقافات، والمحكومة بالعقلانية والثورة العلمية والتكنولوجية التى أفرزت الثورة الصناعية الرابعة: هل تصلح الدعوة إلى سيادة الفكر الأسطورى التقليدى التى يتبناها فلاسفة إفريقيا، كمرجعية للثقافة الإفريقية، لأن تكون أرضية مشتركة يلتقى عندها الغرب والعالم الإفريقى؟ أم أن هذه الدعوة تفضى إلى تفكيك وحدة الحضارة وذلك بتشجيع الصراعات بين الثقافات وتدعيم الإرهاب الكوكبى؟
نقلا عن المصرى اليوم