السودان هو جغرافيا الامتداد الطبيعي الجنوبي لوادي النيل في مصر وتاريخيا هو الامتداد الشعبي الوثيق والحميم للمصريين شمالا مع السودانيين جنوبا, لذلك لا غرابة ولا جدال في اهتمام المصريين بمتابعة التطورات السياسية والثورية التي تحدث في السودان منذ نحو شهرين والتي انطوت علي انفجار بركان غضب شعبي أطاح بنظام حكم البشير الدكتاتوري السلطوي الذي جثم علي صدر السودان ثلاثين عاما وعاث فسادا وتنكيلا وتفرقة وتمييزا بين طوائف وعرقيات الشعب السوداني مما أدي إلي انزلاق السودان في مستنقع الحروب الأهلية والصراعات التي أسفرت عن انسلاخ السودان الجنوبي في جمهوريةمستقلة والتهديد بأن يلحق به إقليم دارفور إذا لم تنجح جهود لم الشمل والمصالحة في الإبقاء علي ما تبقي من السودان والحيلولة دون استمرار تفتيته.
إن المتأمل لما يحدث في السودان منذ شهرين لن يفوته التشابه الشديد بينه وبين ثورة 25 يناير 2011 في مصر… حيث تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وانفلات الأسعار والتضخم, أدي إلي تفجير موجات من السخط الشعبي تبلورت في مظاهرات غاضبة للجماهير نزلت وتجمعت بشكل عفوي في الشارع تطالب بالعدالة والإصلاح.. مظاهرات تعكس بركان غضب مكتوم في الصدور انفجر يطلق حمم الرفض والاحتجاج والصراخ من أجل التغيير… وعندما لم تستجب السلطة الغاشمة وأساءت تقدير القوة الهادرة لبركان الغضب وحاولت دحره بالبطش كما اعتادت تحول البركان إلي ثورة شعبية عنيدة تطالب برحيل السلطة.. ثورة شعبية عفوية وأصيلة لكنها وليدة تداعي الأحداث ودون تخطيط مسبق ودون قيادة محددة ودون رؤية ثابتة للتغيير.. والحمد لله أنه عندما طاش صواب السلطة الغاشمة وطلبت من قواتها المسلحة قمع الثورة انحازت القوات المسلحة إلي الشعب وأبت أن توجه رصاصاتها إلي صدره واستدارت في الاتجاه المعاكس لتعزل رموز السلطة وتحرر البلاد من استبدادهم إيذانا ببدء عهد جديد من التغيير والحرية والإصلاح… عهد ينبغي رسم ملامحه بالحوار الشعبي وبعدم التفريط في دعائم الدولة والاستقرار وبالحذر من الانزلاق نحو الفوضي والضياع.
ما حدث في مصر عام 2011 نراه بعينه يتكرر اليوم في السودان.. انحاز الجيش السوداني للشعب ولثورته وأزاح البشير ونظام حكمه ودعا سائر الفصائل السياسية السودانية لحوار وطني لوضع برنامج سياسي وزمني لمرحلة انتقالية يتولي مقاليد الحكم فيها المجلس العسكري وتنتهي بانتخابات ديمقراطية تنتقل بموجبها السلطة إلي حكومة مدنية.. كنا نتابع هذه التطورات عن كثب, وقلبنا مع الشعب السوداني الحبيب نتلهف أن يتبلور توافق شعبي يسطر ملامح المرحلة الانتقالية ليعبر من خلالها السودان من مرحلة مظلمة إلي عهد جديد تشرق فيه شمس الحرية والكرامة والرفاهية.
وأيضا ما حدث في مصر عام 2011 نراه بعينه يتكرر اليوم في السودان… ففي مصر قفزت جماعة الإخوان المسلمين علي الثورة الشعبية العفوية الوليدة ونجحت في اختطافها وتوجيه الأمور لخدمة مخططاتها للقفز علي السلطة, وكانت تجربة كارثية بغيضة عاشتها مصر حتي نجح المصريون في الخلاص منها في ثورتهم الثانية في 30 يونيو …2013 فهل تحذو السودان حذو مصر في هذا المسار الدرامي؟… إن الشواهد التي نتابعها تنبئ بأن جماعة الإخوان المسلمين السودانية التي هي الأب الروحي لنظام حكم البشير في السودان لم تستسلم لعزل البشير عن السلطة وتحاول جاهدة مقاومة التغيير الجاري لأنها تعرف تمام المعرفة أنها بتعاليمها وممارساتها وسطوتها علي جميع مفاصل الدولة السودانية هي المستهدفة من الإقصاء والتغيير… لذلك تتحرك الآن هذه الجماعة بكل ما أوتيت من قوة ومن أسلحة ومن ميليشيات لإجهاض الثورة الشعبية وتشويه نقائها وأصالتها بالوقيعة بينها وبين المجلس العسكري السوداني… ذلك يشهده الشارع السوداني حاليا من تأجج المظاهرات ونفلات العنف وسقوط الضحايا واتهام الجيش السوداني بقتل المتظاهرين والصراخ والعويل علي أعداد القتلي والمصابين!!
وطبعا ترددت أصداء كل تلك الأحداث في أرجاء العالم وارتفعت نبرات ردود الأفعال تتهم المجلس العسكري بالاستيلاء علي السلطة وقمع الثورة, وأخري تطالب بضرورة نقل السلطة إلي حكومة مدنية, وأخري يعاقب السودان بتعليق عضويتها في الاتحاد الأفريقي.. وسواء كانت ردود الأفعال هذه نابعة من نوايا حسنة تنحاز إلي الحكم المدني ضد الحكم العسكري أو نوايا خبيثة تؤازر جماعة الإخوان للقفز علي الثورة واسترداد السلطة إمعانا في تفتيت السودان وتحويله إلي اللادولة كما يحدث في ليبيا بهدف حصار مصر التي يجن جنونهم أنها لم تسقط بفضل وحدة شعبها وجيشها… أقول سواء كان هذا أو ذاك نبقي نحن المصريين أفضل كثيرا كثيرا من غيرنا في إدراك ما يحدث في السودان لأننا سبق واكتوينا بنفس المحنة حتي أنقذنا الله منها وحمي بلادنا من شرورها… إن التقارير السياسية التي تتناول الأوضاع في السودان ليست مغيبة عن مؤامرات جماعة الإخوان السودانية للوقيعة بين الشعب والمجلس العسكري.. وأصلي أن يسبغ الله الحكمة والبصيرة علي الاخوة السودانيين ليتبينوا ذلك ولا يسمحوا بتكرار سيناريو 25 يناير عندهم.