مخاطر حقيقية تهدد الشعب العراقي
بقلم :د.عبد الخالق حسين
أحد أهم الكتب التي قرأتها قبل سنوات، كتاب بعنوان: (الانهيار Collapse)، للعالم الموسوعي الأمريكي، Jared Diamond، يبحث فيه عن أسباب فشل شعوب، ونجاح غيرها. فيذكر المؤلف عدة أسباب لانقراض بعض الشعوب، منها: التحولات البيئية، والكوارث الطبيعية، وجيران معادين، والموروث الاجتماعي culture، كما ويناقش حروب الإبادة بين أبناء الشعب الواحد، وعلاقتها بالانفجار السكاني المصحوب بتردي الوضع الاقتصاد. وقد تطرقت لهذا الكتاب القيم في مقال مطول لي بعنوان (دور الانفجار السكاني في حروب الإبادة).
ويأتي المؤلف بأمثلة عديدة في التاريخ لشعوب انقرضت لسبب أو أكثر من الأسباب التي ذكرها، ومنها حرب الإبادة التي اندلعت بين الهوتو والتوتسي في رواندا عام 1994، والتي قتل فيها نحو 800 ألف من التوتسي وعشرات الألوف من الهوتو في أسابيع قليلة.
ولو جئنا إلى حالتنا العراقية، لوجدنا جميع الأسباب التي ذكرها المؤلف، والتي تؤدي إلى انهيار الشعوب وانقراضها، هي موجودة في العراق. فالعراق يجاور دول معادية مثل إيران، وتركيا، وسوريا، والسعودية، والكويت، وكلها، إما قوية عسكرياً، أو مالياً، أو كليهما، في الوقت الذي يمر فيه العراق في حالة ضعف عسكري شديد وتناحر بين مكوناته. كذلك يواجه العراق خطر الانفجار السكاني، حيث كان تعداد نفوس شعبه لا يتجاوز المليون ونصف المليون نسمة في أوائل القرن العشرين، والآن يبلغ أكثر من 30 مليون نسمة، أي ازداد 20 مرة خلال أقل من قرن. وكذلك يواجه العراق خطر الجفاف والتصحر بسبب قيام تركيا وإيران ببناء سدود على منابع المياه التي تغذي الأنهار العراقية، وخاصة دجلة والفرات من تركيا، وكذلك سوريا التي بنت سد الأسد على الفرات على حساب حصة العراق. والآن هناك أنباء عن تحرك الكويت بتمويل سوريا لبناء سد على دجلة، لا حباً بسورياً طبعاً، ولكن كرهاً لشعب العراق، ولإلحاق أكبر ما يمكن من أذى به.
وقد نشر الأستاذ علي بابان، وزير التخطيط السابق، مقالاً قيماً بعنوان: (البكاء عند أنهار تحتضر)[1]، حذر فيه من المخاطر الحقيقية المهلكة التي تهدد وجود الشعب العراقي، واحتمال جفاف دجلة والفرات بين عامي 2035- 2040، حسب تقرير الأمم المتحدة.
أما عن دور الثقافة الاجتماعية (culture) في انقراض الشعوب، فهو أيضاً موجود في العراق، وما هذه الانقسامات، والتناحرات الطائفية والعرقية، والصراعات الدموية بين القوى السياسية لمكونات الشعب العراقي، إلا دليل على دور الموروث الاجتماعي في تدمير العراق. ففي الوقت الذي تتربص فيه دول الجوار بالعراق شراً، وتسد أنهاره، وتدعم الأعمال الإرهابية ضد شعبه، وتخنق عليه ممراته البحرية وموانئه، نجد القوى السياسية منشغلة فيما بينها في صراعات على أمور ثانوية وفرعية، ومحاولات لتقسيم العراق إلى كانتونات هزيلة يسهل ابتلاعها من قبل دول الجوار، دون أن تعير أي اهتمام لما يهدد وجود هذا الشعب من مخاطر حقيقية كارثية، بل ونرى هذه القيادات تقدم الولاء لحكومات دول الجوار مقابل ما تحصل عليه من دعم مادي وسياسي للقضاء على منافسيها.
كما ونعرف أن الكويت قد خططت لبناء (ميناء المبارك) على الساحل الشرقي من جزيرة بوبيان، المقابل لشبه جزيرة الفاو. وهذا الميناء يكلف الكويت بلايين الدولارات، الغرض منه هو تغيير مجرى التيار المائي في خور عبدالله، والذي بدوره يؤدي إلى تآكل الأراضي العراقية، وإذا ما تم بناء هذا الميناء فبعد عشرات السنين يمكن أن تختفي شبه جزيرة الفاو إلى حدود أبي الخصيب، وربما أبعد من ذلك. فلو كانت الكويت حقاً تحتاج إلى هذا الميناء لأغراض اقتصادية، كما تدعي، لكان الأفضل لها بناءه في الساحل الغربي من جزيرة (بوبيان) الأقرب إلى الكويت. ولكنها حرشة واضحة للانتقام من الشعب العراقي على جرائم صدام حسين. وبذلك فالمسؤولون الكويتيون قد عاقبوا الشعب العراقي مرتين: الأولى عندما تعاونوا مع صدام يوم كان يضطهد الشعب العراقي، والثانية، يوم تخلص الشعب العراقي من هذا الجلاد، فراحوا ينتقمون منه لأن صدام كان حاكمه في يوم ما. لذلك نتمنى على عقلاء الكويت أن ينتبهوا إلى هذه المؤامرة القذرة، فكلا الشعبين محكوم عليهما بالجوار، وليس بمقدور أحد تغيير الجغرافيا والتاريخ، لذلك فمن الحكمة ومصلحة الشعبين أن يسعى العقلاء من القيادات السياسية فيهما لإيجاد الحلول السريعة العادلة للمشاكل العالقة، لكي ينعم الشعبان بالعيش بسلام وحسن الجوار، وبناء الجسور بينهما بدلاً من بناء جدران الحقد والكراهية والعداء.
ومن كل ما تقدم من مخاطر، نعرف أن العراق مهدد بالزوال، ما لم تنتبه قياداته السياسية لإيجاد الحلول الناجعة لدرأ تلك المخاطر، وكمحاولة، نقدم بعض الاقتراحات في هذا الخصوص، عسى ولعل أن يتبناها أهل الحل والعقد، لتلافي الكوارث المحدقة بالعراق وشعبه، وقبل فوات الأوان.
أولاً، حول تحرشات الكويت بالعراق: في الأشهر الأولى من إسقاط حكم البعث الفاشي أبدت الكويت، حكومة وشعباً، نوايا ودية فائقة، حيث قدمت مساعدات جدية للشعب العراقي، عسكرياً، ومادياً على شكل جلب مياه الشرب، ومواد غذائية وغيرها من المساعدات، إضافة إلى جعل أراضيها منطلقاً لقوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا. ولكن مع الأسف الشديد لم تدم هذه العلاقة الودية، بل بدأت المنغصات بين البلدين الشقيقين الجارين. وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما باشرت الخطوط الجوية العراقية بتنظيم رحلات بين بغداد ولندن قبل عامين، قامت السلطات البريطانية وبطلب من الحكومة الكويتية، بحجز الطائرة العراقية واعتقال طاقمها بمن فيهم المدير العام للخطوط الجوية العراقية، بحجة أن الكويت تطلب العراق تعويضات عن طائراتها التي صادرها، أو دمرها صدام حسين إثناء غزوه الغاشم للكويت عام 1990، علماً بأن حتى الطائرات العراقية لم تسلم من هذا الدمار، فقد استحوذ عليها الجيران، إيران والأردن، وهي غير صالحة للاستعمال الآن. والكويت مازالت تستلم حصتها من تعويضات الحرب، ولحد الآن استلمت أكثر من 50 مليار دولار، ومازالت تطالب بالمزيد.
كما واحتجت الكويت على الحكومة الكندية عندما حاولت بيع طائرات إلى العراق، كذلك للكويت دور كبير في إبقاء العراق مكبلاً بالبند السابع من قرارات الأمم المتحدة. وأخيراً وليس آخراً، دعمها لسوريا في بناء سد على دجلة، وميناء المبارك، كما أشرنا أعلاه.
والسؤال هنا، لماذا تغير موقف الكويت بعد تحرير العراق، من الود إلى العداء؟ أعتقد أن هناك جهات أجنبية تتحرك وراء الكواليس بغية الإيقاع بين الشعبين الشقيقين، فتفرض الضغوط على الحكومة الكويتية للتحرش بالعراق الجديد لأسباب طائفية، وسياسية، واقتصادية، وهذه الجهة هي السعودية. ولا ننسى دور فلول البعث في إثارة الجانب العراقي ضد الكويت لإشعال الفتنة. لذلك، فالمطلوب من الحكومة العراقية معالجة هذه المسألة بمنتهى الصبر، والحكمة، والدبلوماسية، وإقناع الأخوة الكويتيين بأنه ليس من مصلحة الشعبين الاستمرار على العداء بسبب الغزو الصدامي لبلادهم. فالشعب العراقي قد عانى من اضطهاد البعث خلال أربعة عقود من حكمه الجائر أضعاف ما عاناه الشعب الكويتي خلال ستة أشهر من الاحتلال الصدامي الغاشم، وإذا كان هناك من يعوِّض الشعب الكويتي على خسائره مادياً، فليس هناك من يعوِّض الشعب العراقي على جرائم البعث ضده. فنظام البعث قد ولى وإلى غير رجعة، ومن الحكمة فتح صفحة جديدة في العلاقات بين الشعبين، مبنية على الثقة والمحبة والتعاون في جميع المجالات.
ثانياً، دو الموروث الاجتماعي في تدمير العراق: الثقافة الاجتماعية العراقية مدمرة بكل امتياز، (والصراع الطائفي جزء أساسي منه). يجب أن يعرف العراقيون بأنهم ليسوا الوحيدين في العالم يتكون شعبهم من تعددية قومية ودينية ومذهبية ولغوية، إذ نادراً ما نجد شعباً متجانساً مائة بالمائة. كما وعليهم أن يعرفوا أن بلادهم طافية على بحر من الثروات النفطية، وإذا ما تم استثمارها بعقلانية فالجميع سينعمون بثمارها ويعيشون بسلام ورفاه. لذلك يجب على العراقيين أن يتبنوا ثقافة التعايش السلمي فيما بينهم، واحترام حق الاختلاف، وتحويل تعددية المكونات إلى حالة إيجابية لمصلحتهم، أما التناحر فيما بينهم فسيؤدي بهم إلى التهلكة والفناء، خاصة وقد تحولوا الآن إلى أدوات طيعة بيد دول الجوار لتدمير أنفسهم بأنفسهم وتحقيق أغراض أعدائهم.
ثالثاً، احتضار النهرين، دجلة والفرات: هذا الخطر حقيقي وليس تحذيراً من خطر وهمي من أجل الإثارة، كما يتصور البعض. والجدير بالذكر، أن إقدام الدول المتشاطئة في بناء السدود على منابع الأنهر التي تصب في العراق ليس جديداً، بل بدأت منذ الستينات في تركيا وإيران. فإيران بنت سداً على نهر كارون الذي كان يصب في شط العرب، في عهد الشاه وغيروا مجراه، وكذلك بدأت تركيا في بناء السدود منذ السبعينات وفي عهد صدام حسين الذي بدد جميع ثروات البلاد على عسكرة المجتمع، وكان له جيش اعتبر رابع قوة في العالم، ومع ذلك لم يستطع منع تركيا وسوريا وإيران من بناء سدودها على حساب حصة العراق. لذلك، فهذه المشاكل لا يمكن حلها بالقوة العسكرية، بل باستخدام جميع الوسائل السلمية القانونية المتاحة، وذلك باللجوء إلى الدبلوماسية الهادئة مع الدول المتشاطئة على دجلة والفرات، ورفع المشكلة إلى الأمم المتحدة، والاعتماد على القوانين الدولية في حماية حقوق العراق من هذه الأنهر.
أما قول أحد رؤساء تركيا (تورجوت اوزال)، بأن العرب يملكون النفط وهم يملكون الماء، و(كل برميل ماء مقابل برميل نفط)، فكلام مخالف للقوانين الدولية، لأن قطع الماء عن العراق يعني القضاء على حياة الشعب العراقي، وهي مسألة وجود وفناء، حياة أو موت. أما مبدأ النفط مقابل الماء، فتركيا استفادت اقتصادياً من تصدير النفط العراقي من موانئها، وميزانها التجاري يقدر بأكثر من 10 بليون دولار سنوياً في صالحها.
على أي حال، يجب على الحكومة العراقية، الحالية واللاحقة، أخذ الأمور بمنتهى الجدية، والبدء بأخذ الإجراءات الممكنة من الآن لتلافي الكارثة، ويبدو أن الحلول العلمية موجودة.
فبعد أن عممت مقال السيد علي بابان على مجموعة من الأصدقاء، استلمت رسالة مطمئنة من الصديق، الدكتور عادل شريف، وهو أستاذ في هندسة المياه في جامعة سري (Surrey) البريطانية، وحاصل على عدة جوائز دولية في اختراعاته العديدة لتحلية المياه المالحة وبتكاليف زهيدة. فبعث لي رسالة أكد فيها أنه من الممكن تلافي كارثة الجفاف في العراق، وذلك بنقل مياه البحر عبر الأنابيب من الخليج إلى المناطق العراقية المهددة بالجفاف، وتحليتها بتقنية جديدة عن طريق الطاقة الشمسية والضغط الأسيموسي، لاستخدامات منزلية وحتى للمشاريع الزراعية.
لست خبيراً في تحلية المياه، وبهذه الكميات الهائلة التي تغطي حاجة البلاد لأغراض منزلية وزراعية، ولكن بإلقاء نظرة عقلانية وعلمية على الموضوع، أعتقد أن هذا المشروع ممكن تحقيقه، خاصة وأن يأتي التأكيد من أستاذ أكاديمي مثل الدكتور عادل شريف. كذلك هناك أدلة واقعية على إمكانية تحقيق مشروع كهذا، إذ أمامنا أمثلة حية من السعودية وغيرها من الدول الخليجية، وهي بلدان صحراوية جافة. وقد استخدم حكامها ثروات بلادهم بحكمة للعمران، وليس للحروب والدمار مثل ثورجية العراق. فالمملكة العربية السعودية تعتبر الآن من أكبر الدول العربية المصدرة للتمور والحبوب. أما دولة الإمارات العربية فتمتلك أكثر من أي بلد آخر من أشجار النخيل والأعناب، اعتماداً على تحلية مياه البحر. أما العراق الذي كان أكبر بلد للنخيل ومصدر للتمور، حيث كان فيه نحو 40 مليون نخلة قبل اغتصاب البعث للسلطة، عمه الخراب بسب الحروب العبثية وهبط عدد نخيله إلى 8 مليون فقط عند سقوط هذا الحكم الفاشي. وهذا من "نِعَمْ" البعث الفاشي الذي يدافع عنه البعض ويتمنون عودته!!
لذلك أهيب بالحكومة العراقية، والمجتمع بالبدء بمشاريع تحلية مياه البحر من الآن، والاستفادة من خبرة الأستاذ الدكتور عادل شريف وزملائه من الخبراء العراقيين في الداخل والخارج. كذلك يمكن حث العراقيين على بناء الخزانات لجمع مياه الأمطار لسقي حدائقهم. ففي سفرة سياحية قمت بها قبل سنوات إلى جزيرة تناريف، إحدى جزر الكناري الأسبانية في المحيط الأطلسي، والقريبة من المغرب، وفي جولة سفاري في أنحاء الجزيرة، شاهدت بجانب كل بيت خزان كبير من الاسمنت لجمع مياه الأمطار لسقي مزارعهم.
كذلك من الضروري تشجيع وحث العراقيين على الاستفادة من الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء وذلك بوضع صفائح خاصة (Solar panels) على سطوح بيوتهم لهذا الغرض بدلاً من المولدات الصغيرة التي تستهلك وقوداً، إضافة إلى ما تسببه من تلوث البيئة من دخان وضجيج. وإذا ما تم تنفيذ هذا المشروع، فستحقق كل عائلة عراقية الاكتفاء الذاتي من حاجتها للكهرباء.
ويمكن تشجيع القطاع الخاص والعام بفتح معامل كبيرة في البلاد لصناعة المواد الضرورية لهذا المشروع، خاصة والعراق يتمتع بتوافر أشعة الشمس في جميع أيام السنة.
والجدير بالذكر أن إسرائيل هي أكثر من أية دولة أخرى تستخدم الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء. والحكومة البريطانية، رغم عدم معاناتها من أزمة الطاقة والمياه، إلا إنها خصصت أكثر من مليار جنيه إسترليني لتشجيع الناس على الاستفادة من الطاقة الشمسية.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :