د. محمود العلايلي
درج كثير من المتابعين للشأن الدينى والسياسى على استخدام عبارة الإسلام الوسطى، وتستخدم لوصف أشخاص ومؤسسات أو توجهات معينة فى مجالات توظيف الدين فى الحياة العامة، وللحقيقة ليس هناك معلومة دقيقة عن بداية استخدام هذا الوصف القيمى فى المفردات الدينية أو السياسية، إلا أنه عنوان يعد من الردود المريحة لتنقية صفحة أى شخص أو مؤسسة أو دولة من الغلو أو التشدد الدينى والأحرى من الإرهاب أو الدعوة له.
والوسطية تعبير بدأ بالفليسوف اليونانى أرسطو، حيث وصف الوسطية بأنها طريق للفضيلة والسعادة، وسرد ذلك شارحًا أن الأخلاق تنظم بشكل ثلاثى يكون الطرفان الأول والأخير فيه تطرفاً ورذيلة، بينما الوسط فضيلة أو فضل، ثم شرح مفصلا أن بين التهور والجبن توجد فضيلة الشجاعة، وبين الإسراف والبخل توجد فضيلة الكرم، وبين الكسل والجشع توجد فضيلة الطموح.
فمثلا، دأب الكثيرون على وصف الأزهر بأنه رمز للإسلام الوسطى، وذلك دون شرح واضح للطرفين المتناقضين اللذين يقع بينهما الأزهر، ودون شرح مفهوم لمفهوم وسطى، أى بطريقة أخرى نتساءل: هل يستقيم معنى الوسطية دون أن يكون فى سياق للتطرف أو التسيب، أو هل لتعبير الوسطية معنى خاص به دون الارتكاز على مفاهيم أخرى تشرحه؟
والتساؤل الآخر، فإنه على أى أساس وفى أى قضية تم الحكم بوصف الأزهر وشيوخه بالوسطية، إلا فى الأحكام التى قد تلقى قبولا عاما، وهذا بالطبع ليس شرحا لغويا ولا موضوعيا لتعبير الوسطية، لأن القبول المعنوى شىء، والمعنى اللغوى أو التعبير الدلالى شىء مختلف، فمثلا، خرج علينا شيخ الأزهر خلال الأسبوع الماضى ناعيا الشيخ الشعراوى فى ذكرى وفاته قائلا «كتب الله له المحبة والقبول فى قلوب المؤمنين، ولا شك أن ذلك توفيق من الله خص به هذا العالم الربانى الذى كان متفانيا فى دينه، محبا لوطنه» وهى رسالة مهمة من شيخ طالما وصف بالوسطية، لشيخ راحل وصف دوما بالوسطية والدعوة للإسلام الوسطى، ولكن هل قدرة الشيخ على توصيل المعلومة هى مقياس وسطيته، أم محتوى كلامه وتعاليمه هى دلائل توجهاته؟ فهو الرجل الذى جاهر دون تشكك أنه سجد لله شكرا حين علم بهزيمة الجيش المصرى فى 67، حتى لا ينسب أى نصر للشيوعية والشيوعيين، وقال فى وصفه لسيد قطب «بأنه استطاع أن يستخلص مبادئ عقائدية إيمانية فى كتابه فى ظلال القرآن، لو كان المسلمون فى كل بقاع الأرض وضعوها نصب أعينهم، لما كان لأى دولة من دول الكفر غلبة علينا»، وكان رأيه فى تنظيم الإخوان المسلمين «شجرة ما أروع ظلالها وأورع نضالها، رضى الله عن شهيد استنبتها (يقصد حسن البنا) وغفر الله لمن تعجل ثمرتها»، وفى الأمور الحياتية الجارية أفتى الشيخ الراحل بعدم جواز عمليات نقل الأعضاء معللا «أن الله تعالى بجعله لك السمع والبصر بعد الخلق لا تعتقد أنه جعلها لك، ولكنها ستظل أعضاؤه ملكه، يبقيها على حالها، يحفظها، يصيبها بآفة، أو يعطلها».
والحقيقة أننى لم أقصد بهذا سرد بعض مواقف الشعراوى وما أدت إليه من تأثير على حياة المسلمين وأفكارهم وأسلوب حياتهم، بقدر ما قصدت توضيح كيف تبتذل الوسطية من الوسطيين، بينما كانت أغلب أفكارهم تعبر عن عقليات رجعية وتوجهات متطرفة بمرجعيات متشددة، ولكنها تقدم للمسلمين بطريقة لطيفة وأسلوب أخاذ، تضيع معه الحقائق وتمرر من خلاله أقسى الفتاوى، ولا يستثنى من ذلك أى من الشيوخ الموهوبين ذوى الجبة والقفطان، أو من لحقهم بالبدلة ورابطة العنق أو حتى بالبولو شيرت، بنشر كل ما يدعون مما يسمونه ويطلق عليه للأسف «الإسلام الوسطى».
نقلا عن المصرى اليوم