مفيد فوزي
أسوأ الأمور فى مصر أن «نتجمل» وكثير من القبح يحاصرنا! وطوال عمرى ترن فى أذنى عبارة «الساكت عن الحق شيطان أخرس». والأمانة تقتضى أن نضع الأمور فى سياقها وحجمها الحقيقى دون خوف أو تردد. ويل لأمة ترى القبح وتغض النظر عنه أو تتعامى! وأخطر ما يصيب المجتمعات إفساد ذوقها وتعكير صفو المزاج العام. أسوق هذه المقدمة «المهذبة» وأنا عائد من مشاهدة فيلم سيئ للغاية رغم أن اسمه خدعنى. فعنوان الفيلم يوحى بالجمال ويحلق بى، بيد أنه دمر أعصابى وأسقطنى من أحلامى واشتقت لدقيقة هدوء، وعند الاستراحة تنفست الصعداء وكدت أغادر السينما غير آسف!
■ لا أحب أن أذكر اسم الفيلم احتراماً لجهد بذل ولكن فى الاتجاه الخطأ! وأبسط ما جرى فى الاستراحة القصيرة أن أولاد فى عمر العاشرة قلدوا ما شاهدوه وبلا مناسبة! استفز العنف غريزة الدفاع عن النفس فدارت أمامى معركة صرخ فيها طفل كاد يفقد بصره مقلداً أبطال الفيلم! واندفعت الأم تحمى ابنها بقاموس شتائم وسط الجو المشحون وجدت نفسى أتذكر علاقتى بالسينما منذ كنت صغيراً أشاهد فى سينما الأهلى ببنى سويف أفلاما مثل سفير جهنم وغرام وانتقام لأسمهان ويوسف وهبى وعدو المجتمع لعباس فارس وعقيلة راتب. كانت «سينما بهدف». حين كبرت وتعددت وسائل الاتصال فتنت بكلود لبلوش، وعشقت أفلام فاتن ونبيلة عبيد وهند رستم. لم يفتنى فيلم لأيقونة السينما فاتن من اليتيمتين حتى صراع فى الوادى مروراً بليلة القبض على فاطمة وأفواه وأرانب وضمير أبلة حكمت ووجه القمر، وتابعت ما قدمته نبيلة من الراقصة والطبال والراقصة والسياسى والعذراء والشعر الأبيض. تابعت أفلام حسين كمال المستحيل والبوسطجى وشىء من الخوف، عشت المتعة الحقيقية مع أفلام صلاح أبوسيف وكمال الشيخ وبركات وجيل عاطف الطيب.. رأيت القاهرة ٣٠ وصفقت للاختيار. فتننى أحمد زكى بأدواره التى نحت فيها شخصياته: السادات والبيه البواب ومعالى الوزير، حتى أفلام حسن الإمام كانت تشدنى رغم أصوات تعارض رؤيته، أفلامه: الخطايا وخلى بالك من زوزو وبين القصرين وقصر الشوق وزقاق المدق وشفيقة القبطية، وكيف أنسى غروب وشروق لكمال الشيخ والصعود للهاوية؟!
كانت سينما بحق وحقيقى تحمل فى طياتها دروساً، سينما مؤثرة حقاً واحترمت الذوق المصرى والمزاج العام، كنت كمن يحلم!
■ حين أطفئت الأنوار عاد الفيلم «الأكشن» بمطارداته من أجل المال والماس، مطاردات افتراضية فى الشوارع والحارات وسيارات تقفز فى الهواء!! صور لا تحدث فى مجتمعنا إلا إذا كانت الشرطة تطارد تجار مخدرات! حتى هذه المطاردة الأمنية لها قواعد وأساليب تطويق ثم القبض على المتهمين والبضاعة. إنما ما أراه أمامى هو خليط من سينما أمريكية وسينما صينية ولكن بالعربى. فى المطاردات كانت عدسات المخرج تلعب بنا وبأعصابنا وتقدم المستحيل الأمريكى. كنت أرى أحداث الفيلم بطلها «الغدر» من أجل المال والوصول للثروة. أى قيم هذه؟! ما هذا العنف المدبب؟ ما هذا الرصاص الذى اخترقنا ونحن على كراسى السينما؟! ما هذا الذوق الفاسد؟ لِمَ يروج الفيلم؟! هل فسد مزاج المصريين إلى حد الإقبال على أفلام العنف المسلح؟ ومنذ متى صارت أصوات طلقات رصاص الفيلم المذكور «زى العسل على قلب جمهور الفيلم». إن السينما هى محاكاة الحياة، فهل يحاكى الفيلم حياة المصريين حتى ولو دارت الأحداث على أرض غير مصرية؟! هل هؤلاء الأبطال فى حياتنا؟ هل هم مثل أعلى للصغار؟ وهل صار العنف منهجا يصب فى شباك التذاكر؟ هل تفضل أحد أساتذة علم النفس ورأى هذا الضجيج الذى يتجاوز احتمال الأذن وقال لنا عن فساد الذوق وتسييد نهج عنف فى التعاملات الحياتية؟ ففى ظلام السينما يتم الإعجاب ببطولات الضرب والخبط والرزع حتى المراد من المال. وفى ظلام السينما يبيع الأخ أخاه.. بدراهم، وفى ظلام السينما تتلوث القيم التى ترسخ فى الأذهان والنفوس!!
■ تحسرت على سينما الأمس. على القصص والموضوعات والأعمال الأدبية التى صارت أفلاماً ويراها الناس ألف مرة ويحفظون حوارا تها بلا ملل. إنها سينما «البنى آدمين» لا «القراصنة»! سينما «الحوار العقلانى الهادى» وليس «الحوار المدجج بالسلاح» هوه إحنا مجتمع تكساس أو الهنود الحمر؟! سينما الأمس «اهتمت بالمضمون» مهما كانت فقيرة الإمكانيات، وسينما اليوم «اهتمت بالشكل» وغرس العنف فى السلوك. مصيبة!!
أيها الرقباء على السينما، أنتم تعطون ترخيصاً للفيلم لأنه لم يتعرض للدين أو الجنس!! هل لاحظتم «حجم العنف» فى أحداث الفيلم؟ هل سألتم أنفسكم ما مبلغ تأثير كل هذا العنف تربوياً؟! كيف تذهب أسرة بأطفالها لتلقى دروس عنف؟
■ وإذا جمع الفيلم أسماء نجوم لهم رصيد فى قلب الجماهير، فهو ليس أكثر من رش السم على التورتة المقدمة على شكل فيلم. ظاهره الجمال وباطنه القبح، ظاهره الهدوء وباطنه العنف، ظاهره الخيال وباطنه الواقع المر.
■ حين خرجت من باب السينما عدت إلى نفسى وسمعت شريطاً لفيروز أطرد به «ضجيج» سكن أذنى وحبس أنفاسى، وجعلنى أصرخ: هذا إفساد لذوق ومزاج المصريين العام، فاحذروا.
نقلا عن المصرى اليوم