د.جهاد عودة
هناك مستويان للقوة الأول هو القوة كمبدأ، فالقوة كانت على الدوام أساس النظام الدولي، ولذلك نجد أن النظريات الكلاسيكية للعلاقات الدولية اعتبرت القوة هي وحدة القياس بين الدول، ولكن هذه الحقيقة تغيرت الآن فلم تعد القوة تمتلك القدرة على فرض النظام والاستقرار في العالم.
أما المستوي الثاني للقوة، فهو ينسحب على الدول التي استطاعت أن تحقق تراكما كبيرا للقوة، لكن هذه الدول رغم هذا التراكم لا تتمتع بالقدر الكافي من الفعالية، وهناك سببان لعدم فعالية القوى الكبرى وعدم قدرتها علي تسوية النزاعات الدولية: أولهما طبيعة القوة التي اختلفت اليوم عن الماضي.
ففي الماضي كانت الدول تتصارع مع بعضها بعضا على مصادر القوة، أي أنه كان هناك صراع بين قوى الدول، أما اليوم، فإن الصراعات الأساسية بين الدول من ناحية وبين المجتمعات من ناحية أخرى، أي بين الدول وفاعلين داخل المجتمعات يصعب الإمساك بهم أو السيطرة عليهم.
وإذا كانت الدول في الماضي يمكنها اللحاق بقوى دول أخرى أشد بأسا منها، فإنه يصعب عليها اليوم مواجهة مظاهر العنف الصادرة من المجتمعات، هذا الانتقال التدريجي لمركز الجاذبية في النظام الدولي من الدول نحو المجتمعات أصاب القوى الكبرة بحالة من العجز.
أما السبب الثاني فيتمثل في انهيار النظام ثنائي القطبية وتفرد الولايات المتحدة بالسيطرة داخل نظام أحادي القطبية، وقد أصبحت الولايات المتحدة هي أول ضحايا هذا النظام، ففي مثل هذا النظام لم يعد حلفاء الولايات المتحدة بحاجة لحمايتها، ونظرا لعدم وجود معسكر منافس يهددهم، فإن هؤلاء الحلفاء لم يعد لديهم ما يدعو للوقوف صفا واحدا خلف الولايات المتحدة.. وهكذا، فإن بزوغ النظام أحادي القطبية سيفقد الولايات المتحدة حلفاءها بالتدريج مما سيضعفها.
وهكذا تراجعت في ظل النظام أحادي القطبية وظيفة الحماية التي كانت تقوم بها الولايات المتحدة لتحل محلها وظيفة الهيمنة. ومن ثم أصبح حلفاء الولايات المتحدة يسعون لمواجهة هيمنتها التي تقيدهم وتحد من حريتهم في الحركة، إلا أن برتران بادي لا يعتقد باستمرار الهيمنة الأمريكية والنظام أحادي القطبية لسبب بسيط هو أن الولايات المتحدة أصبحت تثير المعارضة والرفض بدلا من تشكيل جبهة متماسكة حولها، وهذه المعارضة تؤدي إلى تفتت القوة والسلطة والنظام الدولي، هو يرى أننا نعيش داخل عالم تعتمد أطرافه على بعض ويرى بعضها بعضا.
ويؤدي ذلك إلى تعاظم الشعور بالظلم على المستوى الدولى، وهو ما يوجد إحساسا عميقا بالذل والهوان في المناطق الأكثر فقرا في العالم، ويولد ذلك بدوره أشكالا عديدة من العنف الاجتماعي، هذا العنف يفرز حالة من عدم الاستقرار في العلاقات الاجتماعية ويناهض أنماط الهيمنة السائدة، ومن ثم, ينشأ نظاما يصدر فيه العنف من الفاعلين في المجتمعات أكثر منه من الدول.
هؤلاء الفاعلون يشعرون بالغبن والهيمنة ومن ثم يلجأون للعنف في محاولة لمقاومة هذا الوضع. إن الوضوح الكبير لهذا الظلم، بفعل ثورة تكنولوجيا الاتصالات، يعمق الإحساس بالإذلال الذي يولد بدوره عنفا اجتماعيا يطلق عليه مصطلح الإرهاب الدولي. هذا العنف الاجتماعي يتولاه ما يمكن تسميتهم مقاولو العنف الذين يلبون هذه الحاجة الاجتماعية للعنف ويستجيبون للرغبة في التنفيس عن الشعور بالذل والكبت. هؤلاء المقاولون هم المنظمات الإرهابية كالقاعدة بزعامة أسامة بن لادن، إلا أن هذه المنظمات لا يمكنها الاستمرار بدون وجود زبائن يريدون الانتقام ممن سبب لهم هذا الذل والهوان.
أن الولايات المتحدة -في سعيها للمزيد من الهيمنة- قامت بغزو العراق واحتلاله.. وهو ما سبب كارثة إنسانية وأدى إلى حالة عارمة من الفوضى الإقليمية والدولية شديدة الخطورة، وهو يرى أن العنف في العراق مرشح للتصاعد بصورة كبيرة. لكنه لا يعتقد أن الاحتلال الأمريكي للعراق سيزيد السيطرة الأمريكية على المنطقة,، لأن الفاعلين الحقيقيين أصبحوا هم المجتمعات وليست الدول. فإذا كان من الممكن التلاعب بالحكام وإخضاعهم فليس من الممكن السيطرة على الشعوب أو إقناعهم بضرورة الخضوع والإذعان لقوة عظمي ما.
والملاحظ أنه كلما استعرضت الولايات المتحدة قوتها، كلما أثار ذلك معارضة شديدة لها وأعمال عنف يصعب السيطرة عليها، ويؤكد بادي أن التدخل الأمريكي أحادي الجانب في العراق لن يؤدي إلى إضفاء الديمقراطية في هذا البلد، بل إنه أدى إلى تمزيق الشعب العراقي، وقد يسفر عن تحويله إلى جماعات دينية وعرقية متناحرة، بل قد يؤدي إلى انهيار الدولة بدلا من بناء الدولة والديمقراطية. والأمل الوحيد هو أن تدرك الولايات المتحدة أن غزوها العسكري للعراق كلفها ثمنا باهظا، وأن لجوءها للتعاون مع المجتمع الدولي هو الكفيل بخروجها من مأزقها الحالي.
ويعتقد بادي أن إطلاق الولايات المتحدة لمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الموسع يرجع لرؤية المحافظين الجدد المحيطين بالرئيس جورج بوش، الذين يعتقدون أن القوة كفيلة بإعادة تشكيل المنطقة وفقا لمصالحهم، فإطلاق هذا المشروع لا يهدف -وفقا للخبير الفرنسي- للسيطرة على البترول أو الانتقام من أحداث 11 سبتمبر 2001 وإنما يرجع للإيمان بقدرة القوة على إحداث التغيير المنشود، أن الشرق الأوسط الكبير مصيره الفشل، لأنه يسعى لإحداث تغييرات من أعلى باستخدام القوة السياسية والعسكرية دون النظر لتطلعات الفاعلين داخل المجتمعات المعنية. وهؤلاء الفاعلون يشاركون بقوة في التفاعلات الإقليمية والدولية، وبالتالي لا يمكن تجاهلهم,، وعدم إشراكهم في عملية التغيير سيؤدي حتما لفشلها.
وامتدادا لمنطق عجز القوة، فأن النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي لن يجد قريبا طريقه للحل.. فالقوة الأمريكية فشلت في القيام بدور الوسيط بين أطراف النزاع، فهي لم تستطع وحدها تسوية النزاع أو فرض قواعد دولية لتسويته، والسبب في ذلك أنها تسعى لممارسة دوري الخصم والحكم في الوقت نفسه، أي أنها تحاول التوسط مع السعي لفرض رؤية أحد الأطراف وهي إسرائيل. وقد أدى ذلك لإيجاد حالة من الشعور الزائد بالثقة لدى الإسرائيليين والشعور الزائد بالشك لدى الفلسطينيين تجاه الوساطة الأمريكية. وهذا التدخل بين الدورين أدى لفشل كل مساعي التوصل لتسوية، ومن جانب آخر,، فإن الثقة الزائدة لإسرائيل بقوتها أدت كذلك لتعثر حل نزاعها مع الفلسطينيين.
فإسرائيل تزيد من قمعها للمقاومة الفلسطينية,، لكن هذا القمع غير قادر على وضع حد للنزاع، وبرغم الضعف الذي أصاب المقاومة الفلسطينية من جراء سياسة القمع الإسرائيلية، فإن تلك السياسة لم تؤت ثمارها بفرض حل إسرائيلي للنزاع علي الشعب الفلسطيني، ويستبعد بادي أن تؤدي خطة الفصل التي أعلنها شارون إلى إقامة نظام مستقر في الأراضي المحتلة، لأنها تنص على الفلسطينيين في معازل شبيهة بتلك التي أقامها نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.. فالخطة الشارونية ما هي إلا خطة للتطهير العرقي ضد الفلسطينيين.
ويشير بادي إلى أن التاريخ يؤكد فشل مثل هذا النوع من الحلول.. فبدون النظر لتطلعات الشعب الفلسطيني التي تعبر عنها المقاومة الفلسطينية لن يمكن التوصل لتسوية دائمة.. فالنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي هو آخر الحروب الاستعمارية في العالم. ولا شك أن مصيره سيكون مثل كل الحروب الاستعمارية السابقة التي انتهت بانتصار حركات التحرر الوطني. ويرى الأستاذ الفرنسي أن نظرية عجز القوة تنطبق كذلك على الحالة الفلسطينية - الإسرائيلية. وهو يتناول هذه القضية من منظور صغر مساحة الإقليم الذي يدور فيه النزاع بين الطرفين. فهذه الحقيقة الجغرافية توجد لدي إسرائيل وهما بفعالية قوتها، وبأن استخدام تلك القوة سيكون كفيلا بالقضاء على المقاومة الفلسطينية.
لا شك أن ممارسة القوة والقمع داخل الأقاليم ذات المساحة المحدودة تعطي نتائج سريعة وقدرة على الحركة غير متاحة في الأقاليم الكبيرة. وبمعنى آخر، فإن صغر مساحة الأراضي الفلسطينية تمكن إسرائيل من السيطرة عليها. لكن تلك الحقيقة لا ينبغي أن تخفي حقيقة أخرى هي عدم إمكانية احتواء العنف والقضاء عليها بشكل تام باستخدام القوة المسلحة، فإمكانية السيطرة على إقليم صغير المساحة لا تأتي بنتائج إلا على المدى القصير.. ومثل تلك السياسة قصيرة الأمد هي بالضرورة سياسة قصيرة النظر، وبالتالي لن يكتب لها النجاح.
نقلا عن صدى البلد