فاطمة ناعوت
فى بلاد العالم المتحضِّرة الطبيعية، (لأن الطبيعىَّ أن تكونَ كلُّ البلاد متحضرةً)، يكونُ هناك ما يلى: شعبٌ يعمل بجدٍّ ينتمى لوطنه ويحافظ عليه، حكومةٌ تُديرُ شؤون البلاد بوعى، مجلس نوّاب يراقبُ الحكومةَ بنزاهة واضعًا نُصب عينيه صالحَ الوطن وصالحَ المواطن وفقط، مدارسُ تعملُ بكفاءة تُنشئُ النشءَ على العلم والقيم، مستشفياتٌ تقوم بدورها النبيل فى الحفاظ على حقّ الحياة للإنسان، مصانعُ ومؤسساتٌ تبنى اقتصادَ الوطن، حقولٌ تُنبتُ الخيرَ والرغدَ والزهور، دورُ عبادة (آمنة دون حراسة) تغرسُ «الأخلاقَ» فى النفوس، منظماتُ مجتمع مدنى ورجالُ أعمال شرفاء يُساندون الدولة فى رعاية الشباب ومشاريعهم الصغيرة، مسارحُ تُقدّمُ الرسائلَ الفنيّة والتربوية لبناء إنسان سوىّ، أوبرا تصدحُ بالفنون الراقية التى تُهذِّبُ الروح وتُغذّى الأفئدة، ملاعبُ رياضيةٌ ونوادٍ تبنى الجسدَ السليم للمواطن، قضاءٌ شريفٌ يحكمُ بين الناس بالعدل، شرطةٌ يقظة تحفظُ أمنَ الوطن الداخلى، ووراء كلِّ هذا جيشٌ باسلٌ يسهرُ على جبهات الوطن، يحمى الأرضَ والعِرضَ والإنسانَ من عدوٍّ خارجى مُحتمَل. ثم حاكمٌ مثقفٌ يُعلى شأنَ دولته أمام العالم. (المُفردُ) من (الجموع) السابقة هو (مواطنٌ) صالحٌ مُنتَمٍ، يعشقُ وطنَه ويرفع لواءه، ويُقدِّمُ صالحَ الوطن على ما عداه من مصالح.
لدينا مما سبق فى مصرَ الشىءُ الكثيرُ. رئيسٌ جسورٌ انتزعَ مصرَ من أنياب الشيطان الإخوانىّ، ومازال يجهدُ ليُخلِّص بقية جسدها من ذيول الأفعى الزاحفة تحت الأرض، ويصلُ الليلَ بالنهار لإعادة بناء وجه مصر الذى تهدّمَ بعضُه بمعاول الإخوان الخونة، جيشٌ عظيمٌ يحمى الحدودَ ويُشيّدُ منشآتِ الوطن وبِنيته التحتية ويُساهمُ فى كسر احتكار تجّار الغذاء، قضاءٌ شريفٌ عادل، شرطةٌ تعملُ جهدَها لتأمين يوم مائة مليون مواطن، مدارسُ ومستشفياتٌ فى طريقها للتعافى، حكومةٌ واعية فى مجملها تكافحُ لإنهاض الوطن من كبواته المزمنة، مسارحُ لا تُسدلُ ستائرُها، أوبرا فاتنة لا تنطفئُ أنوارُها، وغيرها. ولستُ أنكرُ أن هناك عثراتٍ شتّى فى كثير مما سبق من مُكوّنات الوطن. بعضُ تلك العثرات تحاول النهوض، وبعضها لا تفكّرُ أصلًا فى العلاج. أعلم هذا يقينًا وأضعُ يدى على مشاكلنا، التى بإذن الله إلى زوال، حتى يصفو وجهُ مصرَ مشرقًا كما ينبغى لها أن تكون. ولكن.
ولكن المدهشَ فى حالة مصر، وما يميّزُها عن (الدول الطبيعية المتحضرة) التى قدّمتُ وصفتها فى صدر المقال، هو أن تلك الدولَ غيرُ مُهدَّدة، لا من عدوّ خارجى ولا من عدو داخلى، إلا فى حدود الاستثناءات الفردية التى تمرُّ بالبلاد على مدار التاريخ. بينما مصرُ تُحاربُ أعداءَ كثيرين فى أكثر من جبهة. وكلُّ عدوٍّ أشرسُ من الآخر وأشدُّ بغضًا لمصر وحقدًا. تركيا، قطر، منظمات الإخوان العالمية السرطانية الموجودة فى إنجلترا وألمانيا والنمسا وفرنسا وتركيا وقطر وغيرها من الدول. ثم العدوُّ الأقذرُ والأحقرُ وهو الإرهاب المزروع (داخل) جسد الوطن، مثل دودة طفيلية خبيثة، لا تُستأصلُ إلا بالدماء. مواجهةُ الأعداء الخارجيين على الجبهات هى حروبٌ واضحةٌ لها أجروميةٌ عسكرية معروفة، تدرسها الجيوشُ وفق استراتيجيات عالمية ثابتة. ولكن مواجهةَ أعداء (الداخل) أمرٌ عسرٌ وشاقٌّ لا ينتظمه إطارٌ ولا فلسفة. لأنك لا تدرى من أين تأتيك الضربةُ من داخل جسدك. بوسع المرء أن يلمح عدوَّه آتيًا إليه، فيتأهب للدفاع عن نفسه. لكن أنّى للمرء أن يرى الفيروسَ الكامن فى جسده، يضربه حين لا يتوقع؟!.
يجبُ أن يعلمَ المواطنُ المصرىُّ أن ما يحدثُ بين الحين والحين فى مصر من حوادثَ إرهابية لا يُمثِّلُ أكثرَ من واحد فى المائة مما يحاولُ الإخوانُ ارتكابَه كلَّ نهار، ولكنهم يخفقون، بسبب يقظة جهازنا الأمنىّ رفيع المستوى. تلك الجرائمُ الخسيسة التى كان آخرها جريمة «كمين البطل»، ثم عمّال مطار العريش، رحم اللهُ شهداءَ مصر الشرفاءَ من الجيش والشرطة والمدنيين، وأذاقَ الإرهابيين من ويل الثكل والفقد والتيتم، الذى نثروه فى أرجاء مصر.
هنا تتجلّى استثنائيةُ مصرَ فى أنها رغم التهديد اليومىّ من (الخارج والداخل)، إلا أنها لا تتوقفُ عن إدهاش العالم بفرادتها وقوّتها. فى حفل افتتاح مباريات كأس الأمم الأفريقية، وقف العالمُ مشدوهًا يصفق لمصر التى قدّمت حفلًا أسطوريًّا تاريخيًّا لا يُنسى. حتى هِناتُه الطفيفة كانت هى النقصَ الذى يؤكد الكمال. أثبتت مصرُ جاهزيتها الكاملة لاستقبال حدث عالمى رفيع المستوى، تحت وطأة مظلّة الإرهاب الثقيلة التى تمنع الهواء والشمس. وفازت مصرُ، حتى قبل فوزها على زيمبابوى، فازت فى إشراقة عُرسها البهىّ، والجماهيرُ تحتشدُ بأعلام مصر الجميلة فى استاد القاهرة، وأمام الشاشات فى النوادى والمقاهى والشوارع والبيوت، يصدحُ اسمُ (مصر) على الألسن فيطير إلى مسامع الدنيا بأسرها. فقط فى مصرَ الاستثنائية، جندىٌّ يحمى، وبطلٌ يفوز.
«الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم