كمال زاخر
ما يحدث بين ظهرانينا اليوم غير منبت الصلة بما تشكل ورُسم عبر القرنين الفائتين، والذى تبلور فى النصف الأخير من القرن العشرين، وقد توقفنا قبلاً عند تجربتى جماعة الأمة القبطية ومدارس الأحد؛ النشأة والرؤية والصدام، وما آلت اليه كل من التجربتين، ومن يتوقف عندهما تتجمع عنده العديد من الأسئلة، لكنها تبقى مفتقرة لاجاباتها الحقيقية، ربما لأن من يملكون الإجابة قانعون بصمتهم، أو لأن الإجابات تضع اصحابها فى مرمى نيران الفرقاء، أو لأن طيف منهم قد رحل بسلام عن عالمنا ومعه أسرار المرحلة. وليس من بين خياراتنا "ثقافة المذكرات" أو حتى تسجيل "شهادات على العصر".
ولعل جيلى مازال يتذكر ذلك النفور الذى كان يحكم العلاقة بين الشمامسة و"بتوع" مدارس الأحد، وكان الإكليروس المحلى ينحاز فى الغالب لإخوتنا الشمامسة، لكن الأمر تبدل الى النقيض بعد أن جلست مدارس الأحد على الكرسى المرقسى، فى شخص قداسة البابا شنودة الثالث، أحد أهم رموز الرعيل الأول. والذى نحت هذا التعبير فى احتفاء الكلية الإكليريكية باختياره للموقع البطريركى.
ولم يقترب أحد من تقييم التجربة بجملتها، رغم مرور قرن كامل على ولادتها، ولم نشهد توثيقاً موضوعياً لسنوات القلق الممتدة من اربعينيات القرن العشرين وحتى إطلالة سبعينياته، والتى شهدت احداثاً وتقلبات غاية فى الأهمية والتأثير على الصعيدين الكنسى والعام، ومازلنا نعتمد على روايات قيادات مدارس الأحد، دون غيرها. ربما لأنها تسجلت على صفحات مجلة مدارس الأحد، فى الفترة من 1948 وحتى 1954. ومؤخراً تسجلت فى سفر كبير صدر فى احتفالية الكنيسة بمئوية مدارس الأحد.
اللافت أن ما استقر فى الذهنية القبطية عن هذه الفترة "فساد الإدارة الكنسية"، وتم الترويج لهذا على مستويات متعددة وظهرت اصوات عديدة تطالب بالإصلاح، تراوحت بين حدة القول، ونموذجه "مجلة مدارس الأحد" وبين حدة الفعل، ونموذجه ما قامت به جماعة الأمة القبطية باختطاف البابا يوساب، عشية الإحتفال بعيد الثورة، وإيداعه أحد أديرة الراهبات بمصر القديمة، وبعد تحريره بواسطة قوات الأمن وعودته لمقره بالبطريركية، يبادر "مجمع الأساقفة" بإيداعه دير "المحرق" بأسيوط، ويتعرض لأزمة صحية تعيده للقاهرة لكن ليس إلى كرسيه بل الى المستشفى القبطى (21 يونيو 1956) ليرحل عن عالمنا بين جدران المستشفى فى (13 نوفمبر 1956).
وتقفز أمامنا اسئلة عديدة : كيف اجتمع الفرقاء على الرجل؟، وما هى ملابسات تأسيس وحل جماعة الأمة القبطية (1952 ـ 1954)، وسر اقترابها من اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية آنئذ، ودعوته لها للمشاركة بالرأى فى وضع دستور 54؟، ثم انقلاب القيادة السياسية الجديدة عليها، الى درجة تقديم قيادات الجماعة لمحاكمة عسكرية، بسبب المذكرة التى تقدموا بها الى لجنة وضع الدستور؟، وهل لهذا علاقة بصراعات الأجنحة داخل قيادة ثورة يوليو؟، وماذا عن توجة المجلة وتصعيد مدير تحريرها الى رئاسة التحرير، بعد صدام الاستاذ مسعد صادق مع توجه الثورة؟، وهل لهذا إمتدادات تضعه على أبواب الدير طالباً للرهبنة؟، وهل تقف الإمتدادات ـ فى اتجاه معاكس ـ وراء الإعتراض على ترشحه للكرسى البابوى (1957)، والأسئلة ممتدة، لكنها شائكة ومحيرة.
والسؤال الغائب الحاضر هل كان البابا يوساب ضعيفاً ومتهاوناً فى ادارة الكنيسة؟. بحسب رصد المؤرخة الأستاذة ايريس حبيب المصرى وتذكر فيه أنه كان لمجمع الكنيسة "مطالب اصلاحية" من هذا البطريرك ـ بحسب البيان الصادر عن اجتماعه (سبتمبر 54) ـ من أهمها (ابعاد حاشية غبطته وخادمه "مِلك جرجس")، وبين شد وجذب ينتهى الأمر الى استبعاد الحاشية وكف يد البطريرك عن ادارة شئون الكنيسة وإبعاده للدير ثم وفاته، كما اسلفنا!!.
على أن للمشهد جوانب أخرى فيما يتعلق بهذا البابا، ربما تجعلنا نعيد قراءة هذه المرحلة وما تواتر عنها، ومعها يظل السؤال الإفتتاحى قائماً كيف اجتمع الفرقاء على الرجل؟.
فهذا البابا كان عالماً ذهب وهو بعد راهباً شاباً إلى اليونان فى بعثة دراسية امتدت لعامين فى جامعة أثينا، (1903 ـ 1905)، وعاد محملاً برؤية مستنيرة، انعكست على قراراته حين أُختير لقيادة الكنيسة، فيذكر عنه اهتمامه بالأديرة وسعيه لرفع مستوى الرهبنة، ودعمه لمدرسة الرهبان بحلوان، والتى كانت تُعِد وتؤهل الرهبان المرشحين للخدمة خارج اسوار الدير، على اختلاف درجات خدمتهم، واجتمع بالمجلس الملى وانتهى معهم الى قرار بنقل الكلية الإكليريكية من مقرها بمهمشة الى المبنى الجديد بالأنبا رويس بالعباسية (1953) وكانوا قد اختلفوا حوله، داخل المجلس الملى: بين من يريدونه مدرسة للتمريض وبين من يرون تخصيصه لخدمات الكنيسة)، فتُرك بلا استخدام، حتى أن وزارة التربية والتعليم رأت الاستيلاء عليه والإستفادة منه، الأمر الذى عجل باستدعاء البابا للمجلس وقراره المشار إليه، وافتتح معه القاعة اليوسابية، والتى بقيت على إسمها، حتى بداية السبعينيات، لتتغير الى القاعة المرقسية، وافتتح المعهد العالى للدراسات القبطية (1954) .
وشهدت حبريته صدور العديد من الكتب والمجلات القبطية، وامتدت خدمته الى جنوب افريقيا واثيوبيا والسودان ولبنان، وسعى لدى الدولة لمنح الأقباط من موظفى الحكومة اجازات رسمية فى اعيادهم، ونجح فى اقرار خمسة ايام متفرقة أجازة لهم فى مناسبات دينية مسيحية مختلفة، واقرار السماح لهم بالتأخر ساعتين صباح كل يوم أحد لحضور القداس.
ويأتى تعيينه للقمص متى المسكين وكيلاً للبطريركية بالأسكندرية ودعمه له، فى سياق اهتمامه بضبط الإدارة الكنسية هناك، وهى وقائع يرصدها الدكتور ماجد عزت اسرائيل فى كتابه (الأب متى المسكين الراهب المستنير) ، ويتميز الرصد باحتشاده بالوثائق المحفوظة بمكتبة دير السريان، وهى بدورها، إضافة إلى ما كتبه الدكتور وليم سليمان قلادة فى مجلة مدارس الأحد (يونيو 1955)، تدحض الكثير من المرويات التى تشوه صورة الرجلين، البابا يوساب والقمص متى المسكين.
هل خشى الفرقاء من نجاح هذا البطريرك فى استنهاض الكنيسة، الأمر الذى يتعارض مع توجهات كل فريق بشكل ما؟
هل دراسته باليونان مثلت تحدياً للمتقدمين فى المشهد الكنسى وقتها فدبت الغيرة بينهم منه؟. وخشوا ان تعقد المقارنات بين الأطروحات الجديدة وبين ما يقولون به؟.
مع تسليمنا بعلامات الإستفهام التى احاطت بالحاشية، هل كانت كافية للتصعيد ضده وتكتل الفرقاء على هذا النحو؟.
اسئلة لا أملك اجاباتها لكنها تلح علىَّ.
وقد دفعت إلى ذهنى بفعل طيف من الأحداث الجارية اليوم والتى تتماس معها بقدر. والتى تبدو فى شقها الظاهر أنها مواجهات فكرية وصراعات عقائدية، بينما خلف الأبواب أمور أكثر تعقيداً وأكثر إيلاماً.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
سطور من كتاب : الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد
كمال زاخر
الناشر : دار بتانة للنشر