ماهر فرغلي
يتذكر سلامة حمودة تلك الأيام الخوالي، قبل أن ينشقّ عن الجماعة الإسلامية، ثمّ عن الإخوان المسلمون، وهو يبحث عن الحقيقة طوال الوقت، مؤكداً أنّه وصل لها أخيراً، وعلم أنّها بعيدة عن التنظيمات والجماعات التي لم تجلب للأمة سوى الضعف والهوان، وفق حديثه الذي خصّ به "حفريات".
المرة الأولى التي شعر فيها أنّه حرّ، حين قرّر أن يرى الجماعة من الخارج، فهناك فرق كبير بين أن يراها من الداخل، وهو مربوط بقياداتها، أو أن يراها وهو منشقّ عنها، تتغير تماماً، فما بين تلك الأيام التي كان يكفّر فيها الحكّام، ويخرج عن المجتمع، والأخرى التي أراد فيها أن يكون عضواً بنّاءً، كانت الأمور صعبة للغاية، حتى أعلنت القيادة التاريخية، عام 1997، وقف العنف، وأطلقوا مبادرة لحقن الدماء، واستكملوها برحلة أطلقوا فيها ندوات لتصحيح مفاهيم أتباعهم، يقول سلامة:
المرة الأولى التي شعر فيها أنه حرّ حين قرّر أن يرى الجماعة من الخارج
كنت قد راجعت نفسي قبلها بشهور طوال، يا لها من أيام صعبة مرّت، كأنّ مشايخ وقيادات الجماعة خرجوا من جوف الأرض، أو من قلاع زمن سحيق، لم يدر أحد عنه شيئاً، لم يكن أحد يظنّ في لحظة أنّهم سيعترفون بأخطائهم، وحين جمعونا في ملعب السجن؛ بدأ الشيخ كرم زهدي في كلماته مرتبكاً وهو يقول: "أقسم بالله العلي العظيم؛ أنّني أقول هذا الكلام ليس رهبة ولا خوفاً، لكنّه اتقاء مرضاة الله سبحانه؛ إنّ ما فعلناه كان خطأً وما حدث كان فتنة، إننا أطلقنا المبادرة حقناً لدمائكم، والدماء في مصر عموماً، أطلقناها حفاظاً على الأنفس من أن تهلك في غير ميدان، أو أن تقتل دون مصلحة شرعية صحيحة أو هدف شرعي، من أجل اليتامى ومن أجل الأرامل، أطلقنا المبادرة لأنّنا رأيناها الأقرب للحقّ".
يتابع بقوله: "للمرة الأولى ساعتها أقابل الشيخ علي الشريف، فسألته عما يجري، فقال: "كلّ ما فعلتموه كان شرّاً مطبقاً، شراً عظيماً، لقد أخّرتم الدعوة عشرات الأعوام"، ألقى بالاتهامات علينا جميعاً، وكأنّهم براء مما حصل، رغم أنّ أحداً من الجماعة لا يجرؤ أن يفعل أمراً دون أن يستأذنهم!".
ابتسم ساخراً وهو يقول: "الغريب؛ كان هو صاحب الاسم الكودي (اللواء الحاج مصطفى رفعت)، الذي علمنا فيما بعد أن اسمه الحقيقي اللواء أحمد رأفت، رئيس مباحث أمن الدولة المصري، والذي توفّي فيما بعد؛ حيث أعطانا محاضرة في نشأة تنظيم القاعدة، ولماذا يجب أن يتوقف العنف، لقد بهرنا من كمّ المعلومات الذي لديه، واذكر أنّه نظر لقياداتنا قائلاً: "مشايخكم دول كنت أجلس مع الواحد فيهم ليال كاملة على انفراد... فاكر يا صفوت أحمد عبد الغني حين أخرجت أمراً من السجن بقتل فرج فودة وضعته في علبة كبريت.. الأزمة انتهت، وأنا من اليوم أميركم... وأمير الدعوة الإسلامية".
يتابع: "نعم، أخرج صفوت أمراً بقتل فرج فودة في ورقة صغيرة بعلبة كبريت، أعطاها لشاب اسمه سعيد، من منطقة إمبابة بالقاهرة، كان مسجوناً معنا، وبدوره سلمها لمحاميه عبد الحارث مدني، الذي أوصلها لعبد الشافي، القاتل المعروف للرجل، عبد الشافي نفّذ، وهو لم يقرأ كتاباً واحداً لفودة، وصفوت أفرج عنه وبقيت أنا مسجوناً!".
بداية الانفصال كانت الموسيقى تلك الروح التي كانت غائبة منذ زمن ثم رجع إليها
البداية للانفصال كانت من تلك الروح التي كانت غائبة منذ زمن عنه ثم رجع إليها، وهي الموسيقى التي يعشقها لكنهم كانوا يحرّمونها، وحين اكتشفوا أنّه يسمع آلات العزف، اعتدوا عليه، وقاطعوه، واعتبروه، وفق قوله، "من الفسّاق"، يقول: "لم يتحدث أحد معي عن سماع الموسيقى أو مشاهدة التلفزيون في البداية، كانوا يتجادلون كثيراً في قضايا مهمة؛ الحاكم الكافر، الفاسد، الجاهلية، ثم رأيتهم يجمعون على تحريم الموسيقى ويختلفون حول مشاهدة التلفاز، وقراءة القصص والروايات، ومبادرة السلام مع اليهود.
لم ينتهِ الأمر بعد، فقد كانوا يحرّمون قراءة القصص والروايات، متناسين أنّ الأدب هو الحياة، هو الروح، حرّموه وحين سنحت الظروف والأوضاع لسلامة بارتياد مكتبة السجن، قرر أمير الجماعة منعه وآخرين من الذهاب إليها، ثم رضخ بعد الضغوط، لكنّه قرّر أن يضع قائمة بنفسه للكتب ليعيرها لمن يريد، وحين طلب منه رواية "زقاق المدق"، نظر بعينين تقدحان نيراناً، وقال لسلامة حمودة: "ممنوع يا أستاذ... مش دي لنجيب محفوظ... حرام لأنها تدعو للرذيلة".
عن العنف المسلح، يقول: "كان لا يمرّ يوم دون أن نسمع عن حوادث قتل وسفك للدماء، وكان هناك من ورّطنا في الدم، كان يقول لنا يكفيكم شرفاً أنكم تنتسبون لمدرسة البلاء، وإنه يريد منّا في المحنة ثباتاً على الحقّ، كثبات الصديق يوم الردة، وإنه لاح الفجر، وإنما هو صبر ساعة، فليحذر كلّ واحد أن يفطر قبل الغروب بلحظات فيفسد صومه، وهو يقصد بذلك عدم إلقاء السلاح، وحين قررت الجماعة الإسلامية الضغط على الدولة لم تجد سوى الأقباط.
ركبنا سيارات وذهبنا في تجمع ضخم لبيوت كبار المسيحيين، هددناهم، ومشينا في تجمعنا لنقف أمام محلات بيع الذهب بشارع الصاغة، وفي ليلة شمّ النسيم، ذهبنا للكنيسة الإنجيلية، ولعب بعضنا بالسيوف، ولوّحنا بها في وجوه الرهبان، فأغلقوا بسرعة أبوابها، وأصرّ المسؤولون على الالتقاء بأميرنا للتفاوض معه للتوقف عن هذه الأعمال، خوفاً من أن يشتعل العنف في بلدتنا الهادئة! لكنّه اشتعل فيما بعد، وهو ما تسبّب في سجني.
كان لا يمرّ يوم دون أن نسمع عن حوادث قتل وسفك للدماء
لما خرج سلامة، وأنهى مدة حبسه، قرّر أن يبدأ من جديد، وصار يختبئ من أعضاء الجماعة، لكنه وجد نفسه وسط الكابوس الإخواني الذي أصاب كثيراً المصريين؛ شهوة السلطة التي جعلت الجماعة تمضي لا تلوي على شيء.
كان لا يهمهم بعد وصولهم للحكم العام 2013 تلك الأحوال العصيبة التي تمر بالمصريين؛ لا بنزين، لا أنابيب للغاز، لا سلع ضرورية، حجم الفاتورة التي دفعها الشعب كبيرة وعظيمة، يقول: "كنا نستاهل لأننا من اخترناهم وعلينا التحمل حتى يأتي يوم السقوط العظيم، وكان قادماً لا محالة".
الموالون للجماعة كانوا يقولون ساعتها إنّ الدولة العميقة تفشلنا، وأنا والآخرون كنا نعرف أنّ الجماعة لم تصمد أمام شهوة الحكم الذي بدا كثمرة لا بدّ من قطافها، دون أن تدرك أنّها قد تكون مسمومة لن تسد جوعها أو تروي ظمأها، كانت أشواق التنظيم العريض الطاعن في السنّ في انتظار تلك اللحظة، فقرر خطفها دون أن يعدّ إجابات عن أسئلة الدولة.
كان سلامة كالفارس الذي صلبوه آلاف المرات، لكنّه قرر أن يبدأ من جديد، أن تصبح حياته بلون جديد وطعم مختلف (من الوطن إلى الوطن).
نقلا عن حفريات