الأنبا مكاريوس
ارتبطت حياة القديس موسى الأسود بشخصيتين محوريتين، إحداهما قَبل توبته والثانية بعدها. الأولى هي السيد الظالم الذي أساء معاملته فهرب منه، والثانية الأب المترفّق الذي قبله وضمّه إليه في حنو. إن السيد الذي ظلمه لا يمكن أن يُدعَى أبًا حتى ولو كان أبًا بالجسد، بينما الأب الحقيقي لا يمكن أن يتسيّد على أولاده. الأول حوّله إلى مجرم ورئيس عصابة من اللصوص، والثاني حوّله إلى أب ومدبر لـ"عصبة" من الرهبان تجاوزت الخمس مئة. الأول تعامل معه باعتباره عبدًا يمتلكه مثل قطع الأثاث والحيوانات، لا قيمة لحياته، والثاني تعامل معه باعتباره إنسانًا مات المسيح عنه بحب. الأول قدّم له نموذجًا للإنسان متى تعجرف وتصلّف، والثاني قدّم أروع نموذج في الاتضاع الإلهي. الأول أظهر البشر في أردأ صورة عندما يملكون السلطة مع القليل من حطام العالم، والثاني أظهر أروع صورة لله مالك كل شيء وكل أحد ومعطي الخيرات. الأول أشعره أن الإنسان بلا قيمة، والثاني أظهر له قيمة الإنسان عند الله مهما كان خاطئًا. لقد قضى الأول على بقية الأخلاق التي اكتسبها موسى قبل العمل عنده، والثاني استردها وأراه كيف ينمو فيها، فأيقظ الإنسان الصالح الذي فيه (يبدو أن كلًّا منّا فيه بذرة صلاح وبذرة فساد). وبينما كان سيده يعيّره بسواد بشرته، أشار الثاني إلى بياض قلبه ونقاوته.
الأول انتهج معه نهج العقاب والانتقام متى أخطأ، والثاني تلمذه على غفران الله وطول أناته. الأول تسيّد عليه، والثاني أكّد له أن الله جعله سيدًا على الخليقة. الأول استمد سلطته من المال والسيف والحيثية، والثاني جاهر بضعفه متضعًا. الأول هرب منه موسى إلى غير رجعة، والثاني التجأ إليه موسى 11 مرة في ليلة واحدة! الأول كان السيد بينما كان موسى هو العبد، بينما قدمه الثاني على نفسه ودفعه للأمام وتوارى هو في الظل. الأول شكّ فيه وأذلّه، والثاني وثق فيه وشجعه. الأول دفع موسى ليؤذي الكثيرين انتقامًا من سيده، والآخر علّمه كيف يغفر باتضاع، وظهر ذلك في تعامله مع اللصوص الأربعة. الأول دفعه لحمل السيف والانتقام، والثاني علّمه حمل كيس الرمل على ظهره ولوم ذاته وحده، والغفران للآخرين. الأول نسى أنه عندما أساء إليه، فقد تسبّب في الإساءة إلى كثيرين لا يعرفهم هو ولا يعرفونه، والثاني علّمه كيف يحسن إلى كل إنسان ويحتمل كل إنسان؛ إذًا لقد آذى السيد الأول كثيرين من خلال موسى، بينما أفاد وربح السيد الآخر كثيرين من خلال نفس الشخص.
الأول ألّه ذاته واتخذ مكان الله، بينما الثاني قدّم الله ومجّده واختفى خلف الصليب. بينما كانت السمة الغالبة على السيد الأول كبرياؤه، كانت السمة الغالبة على الثاني هي اتضاعه. الأول كاد يقتله، والثاني سلّمه كيف يكون شجاعًا ولا يهاب الموت. ونحن لا نعرف للسيد الجديد مقولات كثيرة، ولكن تلميذه أثرى التراث النسكي بالعديد من الأقوال التي صارت نبراسًا للرهبان من بعده.
مات السيد الظالم ودخل التاريخ من باب الشر، مَثَله مَثَل الأشرار الخالدين، بينما ما يزال القديس إيسيذورس يحيا في وجداننا. مات السيد ولا يعرف أحد اين يوجد قبره، وأمّا الثاني فما يزال خالدًا كرمز من رموز الأبوة الحقيقية والاحتواء، نتبارك من جسده المقدس كل يوم.
لعلّنا مما سبق نفهم سر تحول موسى اللص، إلى الشهيد القديس القوي الأنبا موسى...
حسنًا قال لي أحد أصدقائي في رسالة كتبها لي بعد سيامتي أسقفا: "اسمح لي أن أدعوك ’أبونا‘ وليس ’سيدنا‘، لأن الأبوة أغلى من السيادة".