نوال السعداوي
«بدأ الصراع بينى وبين أنوثتى مبكرا جدا، قبل أن تنبت أنوثتى، وأعرف شيئا عن جنسى، وأصلى، وفصلى. بل قبل أن أعرف أى تجويف كان يحتوينى، قبل أن أخرج إلى العالم الواسع، كل ما كنت أعرفه، أننى بنت كما أسمع من أمى. بنت؟. ولم يكن لكلمة بنت سوى معنى واحد، أننى لست ولدا، لست مثل أخى، أخى يقص شعره ويتركه حرا، وشعرى أنا يطول ويطول، وتمشطه أمى فى اليوم مرتين، وتقيده فى ضفائر، وتحبس أطرافه فى أشرطة. أخى يصحو من نومه، ويترك سريره كما هو، وأنا علىً أن أرتب سريرى وسريره أيضا. أخى يخرج إلى الشارع ويلعب دون إذن من أمى أو أبى. وأنا لا أخرج إلا بإذن. أخى يأخذ قطعة من اللحم أكبر من قطعتى، ويشرب الحساء بصوت مسموع. أما أنا، أنا بنت، علىّ أن أراقب حركاتى وسكناتى، أن أخفى شهيتى للأكل، وأشرب الحساء بلا صوت.
أخى يلعب، يقفز، يتشقلب. وأنا إذا جلست وانحسر الثوب عن سنتيمتر من فخذى، فإن أمى ترشقنى بنظرة مخلبية حادة، لأخفى عورتى
كل شىء فىّ عورة وأنا فى التاسعة من عمرى.
حزنت على نفسى، أغلقت باب غرفتى علىّ وجلست أبكى وحدى. لم تكن دموعى الأولى فى حياتى، لأننى فشلت فى مدرستى، أو كسرت شيئا غاليا، ولكن لأننى بنت.
بكيت على أنوثتى قبل أن أعرفها. فتحت عينىّ على الحياة، وبينى وبين طبيعتى عداء».
هذه هى السطور الأولى، فى روايتى «مذكرات طبيبة» التى نشرتها فى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، بعد تخرجى مباشرة فى كلية طب قصر العينى. تجاهلت الحركة الأدبية فى مصر، روايتى، باعتبارى طبيبة لا أنتمى لعالم الأدب، ولا يتبنانى أحد فى السلطة الحاكمة سياسيا وأدبيا، وليس لى اسم معروف بين النخبة المسيطرة ثقافيا فى مصر، التى تعتمد عليها الحكومات فى قهر الشعب والمفكرين والرواد، ولا أنتمى إلى عائلة ذات ثراء مادى من ملاك الأراضى والتجار والشركات الرأسمالية ومن حولهم من أجانب، يتمتعون بالامتيازات، وأحزاب سياسية وجمعيات خيرية ونسائية ترتبط مصالحهم بالاستعمار البريطانى، والعائلة المالكة بقيادة فاروق الأول ملك مصر.
حذفت الرقابة الحكومية، نصف روايتى تقريبا، لأن بها ما اعتبروه من المحظورات، والمحرمات، والتابوهات المسكوت عنها، منها ما يتعلق بالشرف والعذرية وختان البنات والطلاق الشفوى، والطلاق عند المأذون بإرادة الزوج المنفردة، وغياب الزوجة، وإهدار حقوق الأم والأطفال وتم نشرها مبتورة نحيفة مثل عظام دون لحم، (فى مطبوعات اقرأ) وحلقات قليلة فى مجلة روزاليوسف. ومع كل الحذف والبتر، أثارت الرواية غضب السلطات الدينية فى الأزهر، والسلطة السياسة فى الدولة، والسلطة الأدبية فى وزارة الثقافة، والسلطة الطبية فى وزارة الصحة ونقابة الأطباء، وتم التحقيق معى، واتهامى بالكفر والانحراف والجهل بحقائق الطب. وبدأت حملات تشويه سمعتى، واعُتبرت أفكارى التى وردت فى رواياتى وكتبى، شاذة، ضد الوطن، والأخلاق، والدين، ومنها كتاب «المرأة والجنس»، الذى تمت مصادرته أيضا بعد مذكرات طبيبة، وأفزع السلطات الحاكمة. فتعرضت للفصل من عملى، ومصادرة رواياتى وكتبى وأى أنشطة أقوم بها، وإن كانت مجلة الصحة، أو جمعية المرأة، أو مقالات علمية وملاحقتى بالشائعات وقضايا الحسبة، والسجن والنفى، والمطاردة المستمرة، واضطهاد أفراد أسرتى، وسماعى بأذنى السباب والتحريض على قتلى، من فوق منابر الجوامع، فى الجيزة أمام بيتى، وإعلان إهدار دمى، وتم وضعى على قائمة الاغتيال والموت، بواسطة التحالف بين الحكومات المصرية، والتنظيمات الدينية، والنخب المنافقة لها، حتى عودتى من المنفى عام 2009. ولم تأمن حياتى من بطش السلطات ونخبها، إلا بعد ثورة يناير 2011، ويونيو 2013، وسقوط حكم مبارك والإخوان المسلمين.
وحدث بعد نجاح رواية «مذكرات طبيبة» رغم مصادرة الحكومات، والتشويه ، أن انتقلت أجزاء منها إلى لغات أخرى. كما تطورت حقائق الطب مع التقدم العلمى، وتم اكتشاف المخاطر الجسيمة لختان البنات، والأولاد أيضا.
وجاءتنى دعوة إلى مؤتمر عالمى بداية الثمانينيات، سمع السفير المصرى فى ذلك البلد عن مشاركتى بالمؤتمر، فطلب من دكتورة موظفة بالسفارة، مرافقتى، ذهلت الدكتورة المصرية لسماعى أتكلم عن مخاطر الختان الطبية، والاجتماعية، فلم تكن تعرف شيئا عن وجود ختان البنات فى مصر أو العالم.
بعد ذلك بنصف قرن، وأنا أعيش المنفى تحت حكم مبارك، قرأت بالصدفة عام 2008، خبرا من مصر، عن تكريم الرائدات، ضد ختان البنات فى مصر، وكانت منهن الدكتورة، التى اعترضت على محاضرتى، ونفت وجود الختان فى مصر.
وقد بدأت الجمعيات الطبية فى أمريكا، أوروبا ومنظمات الأمم المتحدة تحارب عمليات ختان البنات باعتبارها جرائم خطيرة ضد الأطفال الإناث، أما ختان الذكور فتسكت عنه الأمم المتحدة حتى اليوم، (رغم كونه جرائم ضد الأطفال الذكور) خوفا من الاتهام بمعاداة السامية، وفى التوراة آية تعتبر ختان الذكور عهدا مقدسا يرتبط بالأرض الموعودة (فلسطين) بين قوم إسرائيل والإله يهوه.
خلال يونيو هذا العام 2019، جاءتنى دعوة من دار النشر الإيطالية، «فنداجو»، للتحدث عن «مذكرات طبيبة»، بمناسبة صدور الطبعة الإيطالية الأولى لهذه الرواية. فى مؤتمر أدبى عالمى، بُعقد فى «مانتوفا»، شمال روما، خلال سبتمبر ٢٠١٩.
وهاتفنى بالأمس، صحفى من روما، يقول معتذرا ومندهشا «كيف لم تكتشف دار النشر الإيطالية هذه الرواية، إلا بعد 63 عاما من نشرها بالعربية فى القاهرة».
وكانت هذه الكلمات بلسما، يخفف من وطأة القهر الذى عشته، بسبب هذه الرواية.
نقلا عن المصرى اليوم