فاطمة ناعوت
أما «الوطن»، فهو مصرُ الجميلة. وأما «السَّلفُ»، فهم سلفُنا المصرى القديم، أجدادُنا المصريون. ولماذا هم صالحون؟ لأنهم علّموا العالمَ القيمَ الرفيعة والأخلاق، قبل الرسالات الدينية بآلاف السنين. علَّموا أبناءهم التحضّر والسُّموّ وعدمَ الانبطاح أمام المطامع. علّموا أبناءهم الرحمة والعدل والترفّع عن الصغائر. علّموهم أن الإنسانَ لا يستحقُّ البعثَ والخلود فى الفردوس الأبدىّ، إن فقط تسبب فى دموع إنسان، أو تعذيب حيوان، أو شقاء نباتٍ إن نسى أن يسقيَه. علَّمونا أن نكون عينًا للأعمى، وساقًا للكسيح، ويدًا للمشلول، وأبًا لليتيم. وأن عدم احترام القانون أو خيانةَ الوطن أو الإهمال فى العمل، أمورٌ تَحرمُ الإنسانَ من البعث والخلود، فيُلقى به فى سلّة العدم ليأكله «عمعوت». علّمنا أسلافُنا العظامُ أن الكذبَ وتشويه الناس بالشائعات من أحطّ الخطايا، وفاعلُها لا يستحقُّ بعد موته حياةً أخرى مع الصالحين. علّمنا السلفُ المصرىُّ الصالحُ أن العمل من أسمى ألوان التعبّد وإرضاء الله فى عليائه. هكذا كان سلفُنا المصرىّ الصالحُ؛ الذى لو مشينا على دربهم؛ لعلونا فوق العالم.
تبدأ (قيمةُ الوطن) عند السَّلف الصالح من اسم الوطن. نحتوه من العبارة: (ها- كا - بتاح)، وتعنى باللغة المصرية القديمة: (منزل روح الإله بتاح)، وهى أرضُ مصر العظيمة. ومع تعاقب اللسان الإغريقى ثم البيزنطى على مصرَ؛ تطورت العبارة إلى: (هى- جى- بتو)، وصارت مع الوقت إيجبت، Egypt. ومن «هيجبتو» جاءت كلمة (َقَبَط) المصريون. أوما (كاهى - رع) فهى أرضُ (رع). إله الشمس. وتُنطق: (كاهيرا)، وهى «القاهرة» الحالية.
وإذن، ربطَ أجدادُنا الأرضَ (أسماءَ البلاد) بالسماءِ (أسماءِ الآلهة). (مصر): (منزل بتاح)، الإله واهب الحياة الذى نادى على الدنيا للوجود. (القاهرة): (أرض رع)، إله الشمس. وهذا يدلُّ على أن سلفَنا الصالح وضع (الوطنَ) فى قداسة السماء. هنا نفهم كيف قدّس المصرىُّ الوطنَ، وجعله تميمةَ فردوسه وخلاصه الأبدىّ.
القبطيةُ إذن هى عِرقُنا المنسىّ المهجور، والهُوية التى حافظ عليها أشقاؤنا المسيحيون الأقباطُ، رافضين أن يُفرّطوا فيها. وامتدّ حفظُهم لهُويتنا المصرية بالتمسّك باللغة «القبطية» فى صلواتهم. فحافظوا عليها لنا من الاندثار. واللغة القبطيةُ هى المرحلةُ الأخيرة من تطور اللغة المصرية القديمة التى تكلم بها سلفُنا الصالح، قبل آلاف السنين. ثم يتجلّى حفاظُهم على الهوية المصرية كذلك فى اختيار أسماء أطفالهم: إما فرعونية: (إيزيس- أوزوريس- حورس- رمسيس- نفرتارى.. إلخ)، أو قبطية: (بشاى (العيد)، باخوم (النسر)، بسادة (اللهب)، بيجول (الشهد)، أثانيسيوس (الخالد)، إيرينى (السلام)، إنجى (ملاك)، أليس (النبيلة)، بطرس (الصخرة)، أبانوب (أبوالذهب)، تواضروس (عطيةُ الله).. إلخ.
ولا تتوقفُ قيمةُ الوطن لدى السَّلف الصالح عند نحت أسماء البلاد والعباد، بل امتدت لما بعد الموت. فالسَّلف المصرىّ تأمل ظاهرةَ الموت واختفاء الإنسان من (الوطن) الذى أحبّه فشيّد فيه وعمّرَ ورسمَ ونحتَ واخترعَ وألّفَ، فكان عليه أن يبتكر حلًّا يعالجُ (فقدَ الوطن). فابتكر «البعث»؛ من أجل العودة إلى الحياة بعد الموت، ومن ثَم الرجوع إلى ذلك «الوطن» الذى عشقه وتركَ فيه المعابد والمسلّات والقصور والقلاع والحصون والترسانات والأساطيل، وبقية تجليات الحضارة العظيمة التى دوّخت البشرية فى عمقها العلمى والفلكى والطبى والمعمارى والفنى.
وتتجلى قيمةُ الوطن عند السلف الصالح كذلك فى «مفتاح الحياة» (عنخ). ذلك الشكل التجريدى الرامز للحياة والبعث. فجعله تجريدًا لخريطة مصر. الخط الرأسى يرمز لنهر النيل. يعلوه مثلثٌ بيضاوى يرمز للدلتا. ويرمزُ الخط الأفقى لشرق مصر وغربها. هكذا يرتبط (الوطنُ) من جديد بالحياة والبعث فى ذهن السَّلف الصالح. ولابد أن يحمل الملكُ الفرعونى (عنخ) فى يدٍ، وفى الأخرى يمسك (صولجان واس) الذى يحمله الإله فى الجداريات أو الملك الفرعونى القديم، ويرمز إلى السلطة والثبات ورعاية الشعب.
يقفُ الملكُ رمسيسُ الثانى قائلا: أنا رمسيس الثانى. أنا ابنُ مصرَ العظيم. أنا ملك أعظمَ أمةٍ على وجه الأرض. سأمحو من الوجود كلَّ من يفكر فى الاعتداء على مصرَ، أو إيذاء شعبى العظيم. سأذلُ أعدائى وأعداء بلدى ومملكتى. لتظلَّ مصرُ الأعلى والأقوى والأغنى والأعظم، مما على وجه الأرض.
كانت هذه هى الكلمة التى قلتُها فى (صالون يونيو) أمام ضيف الشرف الكبير: قداسة البابا المعظّم تواضروس الثانى، الذى استضافنا مشكورًا فى المقرّ البابوى، واحتفى بنا خيرَ اختفاء، وقدّم للصالون هديةً ثمينة من صنع يد الراهبات الكريمات، مؤكدًا اهتمام الكنيسة المصرية الوطنية العريقة بإثراء الحياة الثقافية بالتنوير، الذى ينهضُ بالمجتمعات. أشكرُ الكنيسةَ المصرية الراقية ورئيسَها المستنير قداسة البابا على تلك الليلة التاريخية المفرحة، التى حُفرت فى ذاكرة الجميع، وفى ذاكرة الصالون الثرىّ بضيوفه وروّاده ورسالته الطيبة.
«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم