كمال زاخر
الكنيسة شأنها شأن أى كيان دينى لها شقان، شق إلهى وشق بشرى؛ تستمد من الأول عقيدتها ومحاور إيمانها، فيما يتبنى الثانى ترجمة كل هذا فى منظومة ممارسات تعبدية، شعائر وطقوس، وضبط العلاقات داخلها، بعضها التزاماً، بما يرد بشأنه نصوصاً فى أدبياتها المقدسة، وبعضها استرشاداً بحاجة جماعة المؤمنين، لتتسق الممارسات مع ما وقر فيها من عقائد، تترجمها وتعيشها، وفى كل الأحوال تبقى العقائد ثابتة تتناقلها الأجيال فى التزام لا تملك أن تخرج عنه، فيما تتحرك بوعى فيما يتعلق بترتيب الممارسات والعلاقات ذات الصفة الإسترشادية والتى تفرضها متغيرات العصر الذى تعيشه، وبالقدر الذى يدعم نجاحها فى مهمتها ورسالتها الإلهية فى العالم، فهى إذن كيان يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
ولأنها تعيش، باتساع خريطة العالم، فى عوالم متغيرة، وربما مناوئة، ومشتبكة معها بشكل يومى وحياتى، ولا يمكن تصورها منغلقة على ذاتها فى مناخات معقمة، ولأن دعوتها ورسالتها تمثل، فى جانب منها، كوابح لصراعات البشر فى جدلية الخير والشر، فهى معرضة لتسلل بعض النوازع البشرية السلبية اليها، لذا تصير المراجعات الدورية الكنيسة القبطية لواقعها وجوبية، وهو ما يسجله التاريخ لنا، بشكل متواتر، وحين لا تنتبه لهذا تكون عرضة للإضمحلال والإندثار، وقد تصبح أثراً بعد عين، ونموذجنا كنيسة شمال افريقيا التى قدمت لنا أعلام بارزين فى قرونها الأولى لعل اشهرهم القديس اغسطينوس. والذى انتجت له تونس بالاشتراك مع الجزائر فيلماً درامياً من اخراج المبدع المصرى سمير سيف، حصد جوائز مهرجان قرطاج السنيمائى 2019.
والكنيسة القبطية الأرثوذكسية تشهد حراكاً باتجاه المراجعات، تفرضه متغيرات داخلها وخارجها، عقب رحيل قداسة البابا شنودة الثالث الذى يمثل الحلقة الأخيرة فى طور المجتمعات الأبوية، التى طوت صفحتها مع نهاية حقبة الثورة الصناعية، ومجئ قداسة البابا تواضروس الثانى الذى يواكب انطلاقات الثورة الرقمية ومجتمعات المعرفة والفضاءات المفتوحة، وما تحمله من أعباء على المؤسسات التقليدية، والكنيسة إحداها، وحاجتها إلى قنوات متطورة للتعاطى مع اجيال تتشكل ذهنياتها خارج أطر السيطرة والتوجيه.
لعل تعريف الكنيسة يأتى فى مقدمة المراجعات، فهى بحسب الرؤية الأرثوذكسية ليست فقط "جماعة المؤمنين"، ولا هى مجرد منظومة الطقوس والممارسات الموقعة على أيام السنة، ولا يمكن قصرها على إكليروس يحكم وعلمانيون يتبعون، كما يروج البعض، بل هى جسد المسيح المتكامل، "لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ هُوَ وَاحِدٌ وَلَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً هِيَ جَسَدٌ وَاحِدٌ، كَذلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضًا.
وقد ترجمت الكنيسة هذا فى ليتورجيتها، منظومة صلواتها، ففى افتتاحية القداس تصلى ما يعرف بتحليل الخدام، تقول "عبيدك يا رب خدام هذا اليوم القمامصة والقسوس والشمامسة الأكليروس وكل الشعب .."، فكل الشعب يحسبون فى عداد الخدام، بل تؤكد فى قوانينها أن لا تقام أية صلوات فى غياب الشعب، ولا تحسب الإكليروس طبقة منعزلة أو أعلى من عامة المؤمنين، ولهذا فرقت بين السلطان والتسلط، وفق توجيه السيد المسيح نفسه "فقال لهم ملوك الامم يسودونهم والمتسلطون عليهم يدعون محسنين، واما انتم فليس هكذا بل الكبير فيكم ليكن كالاصغر والمتقدم كالخادم، لأن من هو اكبر؟ الذي يتكئ ام الذي يَخدِم؟ اليس الذي يتكئ؟ ولكني انا بينكم كالذي يَخدِم." ويتأكد المعنى فى رسالة القديس بطرس أحد ابرز تلاميذ المسيح فى توجيهاته للرعاة "أَطْلُبُ إِلَى الشُّيُوخِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ، بَيْنَكُمْ، أَنَا الشَّيْخَ رَفِيقَهُمْ، وَالشَّاهِدَ لآلاَمِ الْمَسِيحِ، وَشَرِيكَ الْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ، ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ الَّتِي بَيْنَكُمْ نُظَّارًا،
وكان وجود المدنيين من غير رجال الإكليروس معلماً واضحاً فى الأحداث المفصلية فى تاريخ الكنيسة، كما فى يوم تأسيس الكنيسة وحلول الروح القدس "وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ"، وفى أول إئتلاف لمجمع الكنيسة بأورشليم للفصل فى توجه المطالبين بالتهود قبل قبول الإيمان، وقد ضم المجمع «اَلرُّسُلُ وَالْمَشَايخُ وَالإِخْوَةُ"، وقد انتهوا إلى قرار "لأَنَّهُ قَدْ رَأَى الرُّوحُ الْقُدُسُ وَنَحْنُ، أَنْ لاَ نَضَعَ عَلَيْكُمْ ثِقْلاً أَكْثَرَ، غَيْرَ هذِهِ الأَشْيَاءِ الْوَاجِبَةِ: أَنْ تَمْتَنِعُوا عَمَّا ذُبحَ لِلأَصْنَامِ، وَعَنِ الدَّمِ، وَالْمَخْنُوقِ، وَالزِّنَا، الَّتِي إِنْ حَفِظْتُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْهَا فَنِعِمَّا تَفْعَلُونَ. كُونُوا مُعَافَيْنَ». وتحررت الكنيسة من مضيق التهود.
وكان الكادر الأبرز فى مجمع نيقية (325 م.) الذى حسم الخلاف حول طبيعة المسيح كان الشماس المصرى اثناسيوس، ضمن وفد الكنيسة المصرية، ولم يكن في بدايات المجمع أسقفاً أو بطريركاً.
ومن يقترب من اشكاليات الكنيسة فى القرن العشرين يلمس بجلاء أن غالبيتها كانت نتيجة اقصاء الدور المدنى عن منظومة تدبير ـ إدارة ـ الكنيسة، واستئثار الطبقة العليا من الإكليروس بها، فى كنيسة لم تعرف الطبقية، حتى داخل الهرم الإكليروسى، فتوزيع المسئوليات لا يعنى التمايز الكهنوتى، فالكهنوت واحد،
وظنى أن قرار إنشاء الكنيسة للمعهد القبطى للتدبير الكنسى والتنمية، 2015، لبالتجمع الخامس، واسناده إلى متخصصين اكاديميين، والذى يهدف إلى تحديث الادارة الكنسية وفقاً لقواعد الإدارة وعلومها المتطورة، وتدريب الكوادر من الإكليروس والشباب خطوة جادة على الأرض للإنتقال بادارة الكنيسة من الفرد إلى المؤسسة.
نقلا عن الأهرام