القس محسن منير
كنت قد كتبت مقالاً تم نشره بجريدة «المقال» فى العدد [٢٥٣] الاثنين ١٩/ ١٠/ ٢٠١٥ الصفحة السابعة. ورغم مرور نحو ٤ سنوات على كتابته ونشره فإننى أرى أن الاحتياج لطرح فكرته ما زال قائماً، بل يزداد إلحاحاً، خاصة أنه رغم الجهد غير العادى والمؤثر والمشهود لنتائجه فى المواجهة الأمنية للإرهابيين فى سيناء ومناطق عديدة فى بلادنا وسقوط شهداء من الشرطة والقوات المسلحة ما زلنا نرى بوضوح علامات ومؤشرات عدم تراجع الفكر التكفيرى المحرك للعمليات الإرهابية والمنتج للإرهابيين حتى استطاع حاملوه من بعض صغار المسئولين الحكوميين أن يعرقلوا قراراً بإطلاق اسم شهيد على مدرسة لكون هذا الشهيد مسيحياً. الأمر الذى دعانى لإعادة كتابته مع قدر بسيط من التعديل وإعادة نشره على سبيل المشاركة الجادة فى ضرورة وحيوية تكريس مفهوم التعامل الجذرى والشامل مع الإرهاب.. فإلى المقال:
يحكى عن حاكم لمدينة أزعجه تأثير انتشار الخمور على سلوكيات أهلها، وقرر صادقاً القضاء على هذا الانتشار فأرسل الحملات الأمنية المكثفة على جميع محلات بيع الخمور، وحطمت كل الزجاجات الموجودة بها، ونام مستريح البال فقد تم القضاء على الخمور. لكن المفاجأة غير السارة أنه اكتشف صباح اليوم التالى امتلاء جميع محال البيع بزجاجات الخمر، فاستشاط غضباً وأمر بحملات التفتيش على المخازن بالإضافة إلى المحال، وتحطيم كل الزجاجات التى بها، وتم له كل ما أراد. لكن مرة أخرى -ويالهول المفاجأة!- ها هى المحال تزدحم بزجاجات الخمر، فجمع كل مستشاريه للدراسة، وجاءه أحدهم وأسرَّ له بأن هناك على أطراف المدينة مصنعاً للخمور كلما تم تحطيم الزجاجات بداخلها يعود ليصب كل إنتاجه بها. وفى صباح اليوم التالى كان قرار وتنفيذ إغلاق المصنع، واستراحت المدينة فعلاً ونهائياً، ولأول مرة استطاع الحاكم أن ينام هادئ البال بحق.
عزيزى القارئ، هل استدعت هذه القصة لذهنك شيئاً ما؟
أثق نعم، فهو بعينه ما جال بخاطرى وأنا أفكر فى مشكلة «القضاء على الإرهاب» كواحدة من أعتى وأصعب المشكلات التى تواجه بلادى، هل نحن حقاً نتعامل مع مشكلة الإرهاب؟ أم نكتفى فقط بالقضاء على من نكتشفهم من الإرهابيين؟ هل نتعامل مع الجذور؟ أم نكتفى فقط بالقضاء على بعض الثمار؟
أعتقد أنه لا يوجد ما يعيبنا إذا رجعنا إلى تجارب فى مجتمعات سبقتنا إلى التعامل الجاد والحاسم مع مشكلات مشابهة، وفى هذا لا أدرى لماذا قفز إلى ذهنى أسلوب التعامل مع النازية فى ألمانيا، وكيف تم القضاء الكامل عليها فى ما بين ٦- ١٠ سنوات؟ ربما لبعض أوجه الشبه بينها وبين الفكر الدينى التكفيرى المتطرف.
سأقتصر فى سرد بعض أوجه الشبه على أربعة فقط، وعلى جماعة الإخوان المسلمين لأنها ببساطة هى العباءة التى خرجت منها كل الحركات المتطرفة الأخرى فى العصر الحديث على اختلاف مسمياتها وأشكالها.
الوجه الأول نراه فى «النشأة»، كل منهما انطلقت فى وسط حالة ضعف مجتمعى عام، وقدمت نفسها كبديل قوى مصحح، فقد قامت الحركة النازية كحركة سياسية بعد الهزيمة المؤلمة لألمانيا فى الحرب العالمية الأولى «١٩١٤- ١٩١٩»، وما نتج عنها من معاهدة «فرساى»، والتى فرضت على ألمانيا وضعاً مهيناً، وأدخلتها فى أزمة كساد اقتصادى، مما خلق حالة من التذمر ومشاعر عميقة بالإحباط والمهانة الوطنية خلخلت الانتماء الوطنى بشدة. وفى وسط هذه الظروف، قدم حزب العمل القومى الاشتراكى «NSDAP» نفسه إلى الشعب الألمانى على أنه المنقذ الاقتصادى والمشعل للكرامة الوطنية حتى تمكن عام ١٩٣٣م من الوصول إلى الحكم وتنفيذ كل ما يريده. وعلى الجانب الآخر، نشأت جماعة الإخوان المسلمين ١٩٢٨م، بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية ١٩٢٣م، مما خلق إحساساً عاماً فى العالم الإسلامى بالضعف والتراجع، فخرج عليه من ينادى بالعودة إلى «أستاذية العالم»، مما يقوى أحلام عودة الخلافة، وبالطبع سيتم ذلك بواسطة جماعة الإخوان المسلمين، بشرط الخضوع لفكرها ومنهجها.
الوجه الثانى نراه فى «شخصية القائد»، فكل من أدولف هتلر، والشيخ حسن البنا، يتميز بالمهارة التنظيمية والقدرة الخطابية القادرة على مغازلة مشاعر الجماهير وإشعالها حتى لو استندت إلى أكاذيب وأوهام، وكلاهما أيضاً يتصف بالزعامة والإحساس المتضخم بمحورية دوره القيادى. الوجه الثالث نراه فى «الأيديولوجيا»، فالنازية مبنية على العنصرية والتشدد ضد الأعراق والأجناس الأخرى، لذا آمنت بضرورة الحفاظ على طُهر الأعراق العليا، وحق قمع -وحتى إبادة- الأعراق والأجناس الأخرى. وعلى الجانب الآخر، تؤمن جماعة الإخوان بأنها دعوة ربانية ذات رسالة سماوية، لذا يجب أن تسود العالم وتقضى على ما عداها، لأن من يرفضها سيكون -من وجهة نظرهم- رافضاً لله، وبالتبعية هو كافر، وبالتالى مُستحق القتل.
الوجه الأخير نراه فى «التأثير السلبى»، فكما هو معروف تاريخياً أنه انطلاقاً من أيديولوجيته، قام الحزب النازى بأبشع الجرائم ضد الإنسانية من معسكرات الاعتقال والتعذيب، والمحارق، والتهجير القسرى للأهالى، ووصلت الذروة بإشعال الحرب العالمية الثانية التى راح ضحيتها نحو ٧٣ مليون قتيل غير مئات المدن التى تم تدميرها، وفى الجانب الآخر ما زلنا نرى ونسمع عن الفواجع التى ترتكبها الجماعات التكفيرية ضد الإنسانية والتفجيرات والقتلى من ممارسات أفراد جماعة الإخوان المسلمين، والتنظيمات المنبثقة منها والمتحالفة معها.
وبعد هذا الاستعراض السريع لبعض أوجه الشبه، لا بد أن يقفز السؤال: ترى لماذا اختفت النازية تقريباً ولم يعد لها أدنى تأثير فى المجتمعات التى كانت فيها، بينما ما زال يرتع إرهاب الفكر المتطرف، بل يزداد انتشاراً وشراسة فى أماكن مختلفة من العالم، وبالأخص فى منطقتنا المنكوبة به؟
أعتقد جازماً -من وجهة نظرى- أن الإجابة الصحيحة هى أن ألمانيا حاربت الفكر النازى وليس مجرد التصدى للنازيين المسلحين -وما أبعد الفارق!- لأنها أدركت أنه جذر المشكلة وأصل الداء. ومن خلال دراسة التوصيات التى تم إرسالها حينذاك للقائد الأعلى لقوات الاحتلال الأمريكى بألمانيا، الجنرال أيزنهاور، والتى شكلت المبادئ الأساسية للقضاء على النازية، ويمكن تلخيصها فى محورين أساسيين يشمل كل محور بعض الإجراءات، كالتالى:
المحور الأول- بشأن النازيين الموجودين حينذاك:
أ) القبض على ومحاكمة كل من شارك فى المؤسسة النازية بكل تشكيلاتها بدور أو بآخر فى نشر فكرها.
ب) الإقصاء والاستبعاد الكامل لكل أفراد الحزب النازى الفاعلين فيه، وذلك من كل مواقع التأثير الرسمية وشبه الرسمية فى كل المجالات والمواقع الحيوية بالدولة.
المحور الثانى- بشأن الفكر النازى:
أ) إلغاء وتفكيك الحزب النازى وكل تشكيلاته المركزية والفرعية ومؤسساته الرسمية والشعبية.
ب) المنع المطلق لنشر أى شكل من أشكال النازية، وحظر استخدام أى كتب مدرسية تتضمن ترويجاً للفكر النازى.
ج) وضع برنامج هادف بجدول زمنى للتنفيذ بغرض مواجهة عميقة لكل مبادئ النازية وما يرتبط بها من نزعة التمييز والعنف مع نشر مبادئ الديمقراطية كأسلوب حياة.
د) تأسيس نظام تعليمى جديد متناسق للسيطرة على كل مراحل التعليم فى ألمانيا لتصحيح المفاهيم المغلوطة السائدة وزرع مفاهيم صحيحة فى الأجيال الجديدة.
هـ) إعداد وتدريب جيل جديد من الإعلاميين لخلق نوعية من الإعلاميين المتدربين والأكفاء القادرين بقوة ومهنية على تعرية الفكر النازى بأسلوب موضوعى.
و) توجيه اهتمام خاص للمسرح والسينما والموسيقى ومختلف مؤسسات الإنتاج الفنى لتكون أداة توعية وتبصير ضد النازية.
وفى الختام، ليتنا نتيقن أن جذور المشكلة تكمن فى اختراق الأذهان بالفكر التكفيرى، لأنه سيقود حامله حتماً، سواء اليوم أو غداً، لحمل السلاح كمنهج لتحقيق فكره. وإن لم يكن قد استخدم السلاح فذلك فقط لأن الدور فى هذه المسئولية لم يصبه بعد وليس رفضاً مبدئياً لاستخدامه، لأنه ما دام بقى هذا الفكر يعشش فى الأذهان، ومع أقصى وأكفأ المواجهات الأمنية سنظل نسمع صوت طلقات الرصاص ودوى انفجارات القنابل، لأن القادر على إسكاتها نهائياً هو فقط التحرر من سلطان هذا الفكر التكفيرى. وأدعو الله من كل قلبى أن تنفتح عيون كل المحبين لمصرنا العزيزة ممن فى مواقع المسئولية واتخاذ القرار ليتبينوا المسار الصحيح من خلال المواجهة الفكرية الجادة والعميقة وفق خطة زمنية للتنفيذ تبدأ من اليوم، ما دمنا لم نبدأ الأمس، وبالطبع مع استمرار المواجهات الأمنية المدروسة.
وإلى أن نشعر بالتغيير سيبقى السؤال مطروحاً: متى سنتحرك لغلق المصنع أم سنظل نكتفى فقط بتحطيم الزجاجات كلما رأيناها؟
نقلا عن الوطن