أحلام طفل و أمنيات قاتل..
بقلم : المحامي نوري إيشوع
عالم الطفولة, عالم فريد, مميز, روحاني, عالم تسوده البراءة, العفة, التسامح, العفوية, العيش المشترك, المحبة الصادقة, عالم شعاره اللهو و اللعب, الفرحة و السعادة اللامحدودة, عالم من دونه يبقى المستقبل مجرد كلمة لا معنى لها . فكم هو قاسٍ و فظيع ان نسلب هؤلاء الأطفال عالمهم هذا!!
اما عالم القتل, فهو عالم آخر مناقض تماماً, هو عالم الظلمة و التواري, عالم الجريمة: قتل, اغتصاب, سرقة و سلب, مخدرات, عالم لا حرمة و لا رحمة فيه, شعاره زهق الأرواح, سلب الأملاك, الرأي الواحد والقطب الأوحد, اما أنا أو القتل و الدمار, عالم مخالفة القوانين و الأعراف. و لكن كم هو مرعب و مخيف ان امارس هذه الجرائم مجتمعة لتعاليمٍ زُرعت فيّ منذ نعومة أظافري باسم التفضيل و التحليل و التحريم!!
منذ سنواتٍ طويلة تعدت المائة, و في قرى بعيدة قابعة في ظلال طور عبدين و ديربكر و الرها و ماردين...كان الناس تعيش في فرح و مرح, مطمئنين آمنين, حسنوا الأرض و فتحوا الأقنية, زرعوا الكروم و جميع انواع الفواكه و حتى التين, يخرجون منذ الفجر كل يوم و كل حين, ليعملوا بالأرض, فيحرثوا و يزرعوا و يجمعوا محاصيلهم بالأغاني و الهتافات و الضحكات و يشكرون ربهم بالدعوات و ينهوونها بكلمة آمين, حياتهم سعادة و محبة و عيش مشترك دون تعب و آهات و لا حتى آلام و أنين, عاشوا بسطاء, أحرار دون ان يحسبوا يوماً حساباً لغدر الذئب وحشية التنين!!
اما الأطفال فكانوا, يلهون كفراشات ملونة, بريئة تتنقل من زهرة الى أخرى, حياتهم مليئة باللهو و الفرح و السعادة الروحية الرقيقة, يحملون قلوبٍ يافعة و عيون حنونة بريقة, لا يعرفون الخوف و الفزع و لا يخافون من الأزقة المعتمة و لا من الحارات المظلمة العتيقة, مرفوعي الرؤوس فخورين لظنهم بانهم بامنٍ و سلامٍ لقربهم من والديهم و أخوتهم ومن كل أهل القرية العامرة المحصنة البديعة, يلعبون و هم يملؤون الأزقة حركة و ضجيج و أريج و ابتسامات صادقة صادرة عن قلوب طاهرة و نقية بريئة.
الذي لم يكن في الحسبان, في ليلة حالكة السواد, و الناس نيام, جمع القاتل كل أعوانه و مريديه و كل جنود ابليس و عباديه و نقل لهم رسالته الأبليسية و قرر ان يحاسب هؤلاء الكفرة ساكني القرية المسالمة, فنزلوا الى القرية, كغمامةٍ سوداء قاتمة, سواد و قتامةَ افكارهم الشريرة, فاباحوا كل شيء, قتلوا, أغتصبوا, سلبوا, سرقوا, هدموا, سبوا, بقروا, حرقوا و مارسوا ابشع الجرائم و افظعها.
في خضم الدماء, و الصرخات و الأستغاثات و العويل و البكاء, و الحريق و الدخان و التكبير و التهليل و النعيق و النباح و المواء, استطاع أحد الأطفال الضحايا ان يختبىء بين الأحراش و الكروم بعيداً عن أعين الذئب والوحش الملعون.
بداْ هذا الطفل البرعمة الذي لا يتجاوز 6 سنوات من العمر, يسير هائماً على وجهه في تلك الليلة الدموية المظلمة, (ظلمة افكار القتلة و قساواة قلوبهم الحجرية التي لم تعرف الرحمة و الشفقة و القديمة قٍدم تعاليمهم الفاسدة), تائه, جائع, عطشان, خائف من الليل و وحوشه, أستمر العدوَ و الركض دون ان ينظر الى الوراء, يختبئ في النهار بين الحقول و المزارع و يقتات منها و يتابع سيره في الليل تحت غطاء العتمة, الى أن ساقته الأقدارالى عائلة سورية كريمة, فاعتنت به عناية الوالدين بالإبن, و شملته برعاية فائقة, و لكن هذا الطفل اليتيم, يذهب الى فراشه كل ليلة و يبكي بحرقة و عويل, على عائلته المفجوعة مع مئات لا بل آلاف العائلات الضحايا, و ينوح على أمه االسبية مع عشرات السبايا, اما في النهار فكان يترقب و ينظرالى الأفق البعيد ينتظر والدته أو لعل و عسى يحمل له قادم من بعيد أي خبرعنها بعد ان رآها آخر مرة و هي تُجر من شعرها وراء الأغا الذي أركبها خلفه على الفرس عنوةً, بعد أن قتلوا والده و كل أفراد عائلته.
أما القاتل, عاد الى مملكته, بعد ان نفذ رسالته و أكمل نذره أمام الهه الدموي, تلك الرسالة التي اثقلت كاهله منذ إن كان طفلاً, فوسع أملاكه و زاد عدد جواريه و ملكات يمينه.
كبر الطفل و تزوج و أصبح رب أسرة و ولكن لم تغيب صورة والدته عن مخيلته, ظل يبكي عليها بحرقة كلما ذهب الى فراشه و ينتظرها فينهار كل يوم. لانه بقي ذك الطفل البريء المتعطش لحنان الأم و حبها و عطفها و حضنها الدافئ .
أما القاتل, عاش بحبور و فرح و سعادة لا متناهية لانه طبق تعاليم و أوامر ربه, و فاز بدون شك بنعيم الفردوس, أغا في هذه الأرض و حور عين و أولاد مخلدون و أنهار من الخمر و العسل في جنات عدن.
مرت الأيام و السنين, و أصبح ذاك الطفل عجوزاً طاعناً في السن, فجاءت اللحظة التي أنتظرها منذ زمنٍ بعيد, بعد سنوات الألم و الغربة, سنوات فقدان حب و حنان الأم. في لحظةٍ صمتٍ رهيبة, نزل ملاك السلام بثياب ناصعة البياض و بوجهٍ طفولي من الأعالي ليأخذ الأمانة, و عند أقتراب الملاك منه, تمتم الطفل الشيخ ببعض الكلمات و هو يبتسم ابتسامة لقاء الحبيب, قائلاً و هامساً : أهلي, عائلتي, أمي, رفاق الطفولة أنتظرتُ كثيراً هذه الساعة, و ها أنذا قادم للقياكم, فأسلم الروح, و عانقت روحه روح والدته التي كانت قريبة منه و ترفرف فوقه لانها كانت تنتظر هي بدورها هذه اللحظة الحبيبة, فأتحدت الأرواح الطاهرة اتحاداً ابدياً لا يستطيع فصلها اي قاتل محترف و لا حتى إله هذا الدهر, ليعيشا الى الأبد في ملكوت السموات و في حضرة الرب الإله كملائكة.
أما القاتل, الذي كان ينتظر على أحرٍ من الجمر, و لم يعد يصدق الساعة التي سوف يلتقي فيه بحور العين و الولدان المخلدون و أنهار الخمر و العسل, بعد أن قتل أطفال أبرياء, أغتصب, سلب و سبى و أرتكب كل أنواع الجرائم. أقتربت ساعة الصفر و جاء عزرائيل و بيده مطرقة من نارٍ و حديد, لينزع عن هذا القاتل روحه الشريرة, بعد أن لوثها و دنسها باعماله المناقضة لتعاليم الإله الحقيقي الذي يدعو للمحبة و المسامحة و العدل. و قال له عزرائيل :
ايها القاتل : لقد نفذتَ تعاليم ربك, إله هذا الدهر و كنتَ العبد الأمين له, فاذهب اليه وانزل الى الأرض السابعة وااسبح معه ببركٍ من نارٍ و كبريت.
أما ربنا فقال في انجيل البشير متى الأصحاح 22 عدد 30 :
((لأنهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ. مت 30:22
المحامي نوري إيشوع
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :