عاطف بشاي
حينما نطالع تفاصيل الأحداث الإرهابية البشعة المتوالية وآخرها المشاهد المؤلمة لتشييع جثامين شهداء أبطالنا بسيناء فى ثلاث قرى بمحافظات قنا والأقصر والدقهلية، تستدعى الذاكرة العبارة التى أتت على لسان سلطان القلوب الصوفى الكبير «جلال الدين الرومى»: الأرض وطنى.. والبشرية أسرتى.
و«جلال الدين الرومى» الذى ولد قبل (800) سنة وتوفى قبل (734) سنة مازالت رسالته السامية فى الحب الذى هو جوهر الوجود وسر الحياة تتألق وتتدفق وتتواصل منذ ثمانية قرون وحتى الآن، حتى إن «اليونسكو» التى اعترفت بحاجة الإنسانية إليه.. سجلت سنة (2007) عام «جلال الدين الرومى».. وقال عنه المستشرق أ.ج. أ ر برى:
- لقد أنقذ الرومى العالم من القلق والاضطرابات قبل سبعمائة عام.. وأوروبا اليوم لن تستطيع أن تتخلص من معاناتها النفسية إلا عن طرق كتبه التى ألفها.
أما «أيرانا ماليكوف» فتقول: لو قامت أمم العالم بترجمة كتب «جلال الدين الرومى» إلى لغاتها وقرأتها بوعى لانتهت الحروب وأزيلت الحقود وانطفأت شرارات الكراهية والبغضاء بين البشرية جميعًا.. ولانتشر الحب والسلام فى كافة أرجاء الدنيا.
وتقول د. جيهان أوتويوجو مؤلفة كتاب مولانا «جلال الدين الرومى»: «لقد تكلم مولانا بلغة فوق جميع اللغات فإحدى رجليه كانت مثل فرجار ثابتة على قيمه هو والأخرى متحركة حول مساحة تحتضن اثنين وسبعين ملة وشعبًا.. لقد رأى المسلمون فيه الأخلاق المحمدية ورأى فيه المسيحيون خلق المسيح عيسى ورأى فيه اليهود خلق موسى».
ما يجعلنى أتحصن «بجلال الدين الرومى» تحديدًا هو ما تنبهت إليه المبدعة «أليف شافاك» صاحبة رواية «قواعد العشق الأربعون».. وهى الرواية الأكثر مبيعًا فى تركيا والتى نالت جوائز أدبية عالمية وتركية عديدة وترجمت أعمالها إلى معظم اللغات العالمية.. تنبهت «أليف شافاك» إلى أن القرن الحادى والعشرين لا يختلف عن القرن الثالث عشر من أوجه متعددة.. والقرن الثالث عشر هو القرن الذى ظهر فيه «جلال الدين الرومى».. حيث سيذكر التاريخ هذين القرنين بوصفهما زمنين من أزمنة التصادم الدينى الذى لا سابقة له وسوء الفهم الثقافى والإحساس العام بانعدام الأمن والخوف من الآخر.. وفى مثل هذه الأوقات تكون الحاجة إلى الحب أكبر من أى وقت مضى.. لأن الحب هو جوهر الحياة وهدفها.. وكما يذكرنا «الرومى» فإنه يهاجم الجميع بمن فيهم أولئك الذين يتحاشونه.
فى خضم هذه الفوضى الضاربة أطنابها فى كل مكان عاش المفكر والشاعر والزعيم الروحى «جلال الدين الرومى» وكان له آلاف الأتباع والمعجبين من جميع أنحاء المنطقة وما حولها.. وكان المسلمون ينظرون إليه بوصفه منارة.
وحينما التقى «الرومى» «بشمس التبريزى» الدرويش.. غير ذلك اللقاء من حياتهما.. وتحول «الرومى» من رجل دين اعتيادى إلى صوفى ملتزم وشاعر مشبوب العاطفة.. مدافع عن الحب ومبتكر رقصة الدراويش الدائرية المثيرة.
وفى الجهاد ضد النفس المضطربة العاصية يتشكل ويتكون «دين الحب» الذى يؤمن أن إدراك الحقيقة عمل من أعمال القلب وليس العقل «دع قلبك يرشدك أولًا وليس عقلك.. قابل نفسك وتحداها وسيطر عليها بقلبك.. إن معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله».. وفى قصيدة للرومى يقول مطلعها:
توجه للحب يا حبيبى.. فلولا حياة الحب الجميلة / لكانت الحياة عبئًا ثقيلًا..
إن المدن تشيد على أعمدة روحية وهى تعكس قلوب سكانها شأنها شأن المرايا العملاقة، فإذا اسودت تلك القلوب وفقدت إيمانها فإن المدن ستفقد بهاءها بدورها.
إن البحث عن الحب يغيرنا- وما من باحث بيننا يسعى وراء الحب ولم ينضج فى طريقه إليه ففى اللحظة التى تبدأ فيها بالبحث عن الحب يبدأ التغيير عليك باطنًا وخارجًا.. تلك هى رسالة «الرومى» إلينا.. علينا اختيار أحد النقيضين ولا شىء آخر بينهما إما الحب الصافى أو الكراهية الشديدة.. فى طريق «الحب» ننبذ الكراهية فما من حكمة بلا حب.. وما لم نعرف كيف نحب مخلوقات الله فإننا لا نستطيع أن نحب الله حبًا صادقًا أو نعرفه معرفة حقيقية.. أما الكراهية فهى تكمن فى الداخل.. ويشبهها «الرومى» بالقذارة التى تلوث النفس وتلتصق بها التصاقًا لا يزول.. ففى إمكاننا تنظيف أجسادنا بالتقشف والصوم ولكن الحب وحده هو الذى ينقى القلب.
والداعشيون وكتائب التكفير والظلاميون وأعداء الحياة وأنصار الردة الحضارية الذين يحملون خطاب البغض المحض، تتحول معهم الفتاوى المسمومة إلى دماء بريئة متناثرة، وأهالٍ يطالبون بالقصاص واجتثاث جذورهم، معلنين دعمهم الكامل للجيش والشرطة والقيادة السياسية فى حربها ضد الإرهابيين الذين لوثت نفوسهم بوهابية تدفع إلى ظلامية أشد هولًا من ظلامية العصور الوسطى، تجرد الإنسان من فكره ومن عقله ومن عواطفه ومن إنسانيته وتحوله إلى كائن بشع خارج الحضارة وخارج التاريخ.
نقلا عن المصرى اليوم