مدحت بشاي
فى قراءة تشخيصية لحالة الثبات التى كان عليها الرئيس الراحل صدام حسين بينما حبل المشنقة يلتف حول عنقه، وهى اللحظات الكافية لانهيار أشد الرجال بأساً وأكثرهم قدرة على التحمل، قال الدكتور والعالم «أحمد عكاشة» الخبير النفسى فى تصريحات تم نشرها إبان تنفيذ الحكم إن هذا الثبات الغريب يمثل حالة يطلق عليها «التجاوز المتسامى» أو «تجاوز حدود الذات» مشيراً إلى أن هذا التجاوز يحدث للأفراد أثناء المحن والكروب والاعتقال والالتحام فى الحروب والانتحار والتعذيب والإعدام، كما فى حالة صدام، الذى كان يتمتع بسمات شخصية يستطيع من خلالها تخفيف شدة الكرب، وقال عكاشة: التجاوز المتسامى يجعل الفرد يتجاوز حدود جسده وينظر إلى ذاته، وكأنه خارج الجسد، فلا يشعر بالألم، ولكنه يتوحد مع إيمانه واعتقاده الخاص بأنه مع الشهداء.
كان هذا إيجازا لطرح وتفسيرا علميا لعالم كبير، يمثل فى النهاية وجهة نظر أرى أهمية تناولها بالتأمل فى تلك المرحلة لأننا فى كثير من الأحيان نحتاج لمن يفسر لنا الظواهر والأحداث ويطرح رؤى وإجابات لعلامات استفهام كثيرة.. وبقراءة متأنية لتشخيص حالة «صدام حسين» أرى أنها توجز وتشخص حال الأمة العربية فى تلك المرحلة من التاريخ ولنتأمل ذلك التقابل الواضح بين شخص صاحب أم المعارك وأمته صاحبة أم الخسائر والأحلام الضائعة.
نعم، يبدو أن حجم الآلام والتحديات التى عاشتها أمتنا العربية قد جعلتنا نعيش تلك الحالة من «التجاوز المتسامى» الذى قد يجعلنا كعرب نتجاوز ذلك الإحساس بالمعاناة المؤلمة لتصاعد حالة التراجع الفكرى والإنسانى وقد اجتاحت موجات الإرهاب الفكرى والمادى حدود الجسد العربى حتى بتنا بالفعل ننظر إلى ذواتنا، وكأننا ننظر من خارج الجسد، فلا نشعر بالألم.
المقابلات كثيرة ومحزنة بين حال رجل عاش وهم الزعامة حتى تمثلها صمودًا مريضا على طاولة الإعدام فضاع وضيع شعبه، وبين أمة لم تبارح شعوبها مناطق الفخر بتاريخ لم يعد له وجود حيث لم يكن هناك حرص على تواصل العطاء وتحقيق الامتداد فى الزمن فضاعت مآثر الحضارة القديمة والأمل فى استثمار النتائج فى صنع مستقبل مأمول، ولم يتبق سوى التباكى على الأطلال أو التفاخر بما بقى من أمجاد الأجداد، ثم الحديث عن مؤامرات تحاك ضدنا فى المنطقة وأننا مستهدفون ثم لا نحرك ساكنا حتى عندما يقترب الغاصبون من أعز مقدساتنا فى القدس ــ على سبيل المثال ــ فى انتهاكات صريحة وواضحة اللهم سوى ظواهر صوتية عبر فضائيات وصحف الضجيج والشعارات بعد أن توهت الأمة صراعات بينية لأسباب سياسية ودينية ومذهبية وسلطوية كان ينبغى طرحها بعيدًا.
إن تجاوز أمر التشبث بشعارات الوحدة التى ليس لها من سبيل إلى تحقيقها على أرض الواقع إلا السعى بشكل واقعى نحو صناعة وصياغة آليات من شأنها تحقيق تصالح المصالح ونظم واقعية للتكامل، حتى يمكن القول أننا أمة قد جاءت لتعيش وتتفاعل مع غيرها من الأمم.
إن المنطقة العربية كمجتمع إنسانى ضخم، يمتلك الكثير من المؤهلات والإمكانات التى تؤهله للعب دور مركزى وحيوى فى قضايا المنطقة والعالم، ولكن هذا يتطلب أن تسعى كل الدول العربية لتنظيم وتطوير علاقاتها البينية على كل الصعد والمستويات، وزيادة وتيرة التنسيق والتعاون بين جميع الدول فى كل القطاعات وعبر الفضاءات الإقليمية والدولية. لابد من تفعيل حالة التضامن والتعاون بين أطراف ومكونات ذلك الجسد العربى، من هنا فإن الدول العربية بأسرها، معنية بالاهتمام الاستراتيجى بهذا الأمر، حتى يتسنى لمواطنيها جميعًا ملء الفراغ الاستراتيجى الذى تعيشه منطقة الشرق الأوسط من جراء التحولات الكبرى التى جرت وتجرى فيه.
نقلا عن المصرى اليوم